اسماعيل ابو البندوره
الذين اعتقدوا أو افترضوا انتهاء تجربة البعث ومشروعه القومي النهضوي عام 2003 عادوا الى مراجعة مواقفهم واستنتاجاتهم وتغيير مناهجهم ورؤاهم، بعد أن فاجأ البعث وقائده المجيد صدام حسين الجميع باطلاق حركة مقاومة وطنية نوعية وفورية بعد الاحتلال، استطاعت أن تنازل المشروع الاستعماري – الصهيوني – الايراني في اعقد وأدق المنعطفات السياسية، وأن تفشل غاياته الرئيسة، وتسقط هيبة القوة الكبرى امريكا، وتفتح الباب على مصراعية لتململ عربي واقليمي ودولي جديد، وظهور قوى احتجاجية على الساحة الدولية تعترض وتطالب بدورها، وتنازع امريكا النفوذ والقيادة والمجال.
وكانت مفاجأة البعث هذه احدى قدراته الكامنة في اشتقاق البدائل وصناعة التاريخ والحدث في كل مرة يراد لهذه الأمة أن تغيب عن التاريخ والوجود الفاعل. ولقد تعوّد البعث صناعة نقاط البداية والمبادرات والبدائل في معظم مساراته، ذلك أن احدى رؤاه البؤرية تقوم على الاحياء والانبعاث والاستنهاض انطلاقا من نظرة وموقف تاريخي تكرسا في وعيه وممارسته النضالية بأن الامة قادرة على صناعة التاريخ كلما توفرت لها الارادة، والوعي التاريخي بوجودها واهمية وحضارية الرسالة التي تدافع عنها.
وقد اطلقت مفاجأة البعث هذه أنماطا جديدة من التفكير القومي، واعادت الاعتبار للمشروع القومي الذي دافع عنه البعث، وجددت النظرة الى هذا المشروع الذي حاولت قوى الاستعمار والصهيونية والارتداد العربي اجتثاثه وتغييبه عن وعي العرب، وأعادت الحيوية الى فكرة المقاومة باعتبارها السبيل الرئيس والوحيد لاستنهاض الامة، وخصوصا أن هذه المقاومة كانت من صنع العرب وأهل العراق وحدهم، ولم تحظى بأي دعم دولي أو اقليمي لابل أنها حوصرت من عدة جهات عربية رسمية واقليمية لاجهاضها أو حتى خنقها في المهد.
لقد أنشأت هذه المقاومة الباسلة اسئلة متعددة ومختلفة في العقل العربي وأعادت الثقة للجماهير العربية وبدأت على ضوء ذلك مرحلة عربية جديدة من التفكير بضرورة تحويل فكرة المقاومة هذه " التي اسقطت المشروع الاستعماري الكبير " والارضية الفكرية القومية التي انبثقت منها، الى منطلق وبداية جديدة للرؤية والاستنهاض والتحدي والانقلاب على الاوضاع العربية، وبدأت تتراكم في الافق القومي نويات انبثاق حالة فكرية جديدة تعتمد المقاومة البعثية ومثالها ونموذجها نهجا للانبعاث والاستنهاض، وتولد عن هذه الحالة الجديدة مبادرات وتركمات أدت في النهاية الى التلاقي مع قوى وتيارات اخرى للاقتصاص من الانظمة التي صنعت الانحطاط العربي وتآمرت على المقاومة وعلى مشروع البعث واسقاطها، فكانت تلك الانتفاضات التي اجتاحت اكثر من قطر عربي وخلقت ظروفا وأحوالا جديدة يمكن أن تتحول الى واقع عربي ناهض جديد، وبداية لتحولات تاريخية تخرج الامة من أزماتها الراهنة.
وعندما يتحدث البعث "هنا والآن" عن تجربته فانه لايريد أن يلغي التجارب العربية الاخرى أوأن يهمشها، ذلك أنه يرى تكوينه وتاريخه ومساراته جزءا من تيار عربي قومي نهضوي عريض تتشارك فيه قوى الامة الحية المؤمنة بمشروع النهضة والمدافعة عن عناصره الرئيسة المتمثلة بالوحدة والحرية والديموقراطية والاستقلال والتجدد الحضاري، وهي العناصر التي تشكل القاسم المشترك الاعظم بين قوى النهضة على اختلاف تياراتها ومشاربها السياسية.
اطروحة البعث في المرحلة الراهنة " وتقال هنا بتواضع وايثار كبيرين " تتمثل بتوظيف المقاومة وفكرها وانجازها في العراق في استنهاض الامة وخلق فضاءات جديدة للتفكير، وضخ افكار جديدة في الحراك الشعبي العربي الراهن حتى لاينحصر هذا الحراك في مطالبات قطرية داخلية محددة، ويهمش القضايا القومية الكبرى المتمثلة بافشال المشروع الاستعماري الصهيوني، ومشاريع ايران وتركيا الطامحة والطامعة في مد نفوذها في الوطن العربي.
والامة كما يرى البعث تستنهض بوعي التحديات الداخلية والخارجية وجدلية الترابط بينهما وعيا نضاليا خلاقا، وبوعي التناقضات الجزئية والكلية وعيا استراتيجيا، ومن خلال ذلك يتولد برنامج الامة في المقاومة والتحرير، وقد تكون المقاومة في العراق بانجازها ودلالاتها هي احدى الزوايا المفترضة التي يجب أن يتطلع اليه العرب للاستنهاض واستشراف المستقبل، ذلك أن قراءة مفرداتها قراءة نضالية متمعنة، وقراءة معانيها وايحاءاتها، قد تقدم دليلا على وجاهة وواقعية هذه النظرة أو هذه الفرضية الاستنهاضية في المرحلة الراهنة!!
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.