محمود كعوش
سطوة الإرادة الصهيونية على الإدارة الأميركية تتواصل
في الذكرى الخامسة والستين لنكبة فلسطين التي اعتاد الفلسطينييون ووطنيو وأحرار الأمة العربية على إحيائها في الخامس عشر من شهر أيار في كل عام بكثير من الحرقة والحزن،
ارتأيت ضرورة العودة إلى خمسة أعوام خلت والتوقف عند تاريخ الثاني من نيسان 2008. ففي ذلك اليوم المشؤوم صادق مجلس النواب الأميركي على قرارٍ وَقَفَ وراءه عتاة الصهاينة داخل تيار المحافظين الجدد في واشنطن ودعا إلى حل ما سُمي زوراً وبهتاناً "قضية اللاجئين اليهود في الأقطار العربية" في إطار "تبادل الحقوق" فيما لو حصلت تسوية سلام بين الفلسطينيين والصهاينة في المستقبل. وتحدث القرار عن تعويضات مالية لأكثر من 850 ألف يهودي ادعى واضعوه أن الحكومات العربية " قامت بمصادرة أراضيهم ومنازلهم التي كانوا يعيشون فيها" بعد مغادرتهم لها إلى الكيان الصهيوني في إطار هجرتهم إلى "أرض الميعاد" المزعومة.
قرار مجلس النواب الأميركي ذاك جاء يومها في سياق "سياسة ازدواجية المعايير والمواقف" الأميركية المتعلقة بمسألة الصراع العربي ـ الصهيوني وبالأخص القضية الفلسطينية، والهادفة بالنتيجة إلى إسقاط حق العودة عن اللاجئين الفلسطينيين الذين شردتهم الصهيونية العالمية في شتات الأرض، بتآمرٍ وتواطؤٍ مع كل الغرب وجزءٍ من الشرق. والقرار وإن لم يتكئ إلى سند قانوني دولي يضفي عليه صفة الإلزام الضرورية وإن كان لا يعدو عن كونه قراراً سياسياً أميركياً داخلياً اعتباطياً، إلا أن المحافظين الجدد قصدوا من وراء صياغته وإقراره في تلك المرحلة استباق أي حديث عن سلام محتمل بين الفلسطينيين والصهاينة، لغرض فرض مقايضة بين حق العودة للاجئين الفلسطينيين وما يُسوق داخل الكيان الصهيوني على أنه "قضية لاجئين يهود" غادروا الأقطار العربية إلى فلسطين المحتلة.
يشار في هذا الصدد أن ذلك القرار لم يكن أول "المكرمات" التي اعتادت العقول الهدامة لأركان إدارة المحافظين الجدد في واشنطن آنذاك بزعامة الرئيس الأميركي السابق الأرعن جورج بوش الإبن على "إتحافنا" بها بين الحين والآخر، بهدف خدمة الكيان الصهيوني ومخططاته الشيطانية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وعلى وجه الخصوص الوطن العربي، وبهدف خدمة التطابق القائم بين سياسات هذا الكيان وسياسات الولايات المتحدة، وإن من السذاجة الاعتقاد بأنه سيكون آخرها.
فهل يا ترى بمقدور أي مواطن عربي يحتفظ بذرة من الكرامة والعزة والانتماء نسيان "مكرماتٍ" أتحفتنا بها تلك الإدارة، التي لم تختلف عن سابقاتها والتي بالتأكيد لن تختلف لاحقاتها عنها، مثلَ قرار غزو واحتلال العراق وتدميره، و"قانون محاسبة سوريا"، و"وعد بوش المشؤوم" للسفاح أرئيل شارون وقرار إدراج الحركات والأحزاب العربية الممانعة والمقاومة على قوائم ما يُسمى زوراً وبهتاناً "الإرهاب" الدولي، وقرار محاصرة قطاع غزة سعياً إلى تهجينه أو الفتك بأبنائه، وجميع القرارات والقوانين والوعود والتصريحات والبيانات والمواقف الأميركية الأخرى المعادية لفلسطين والفلسطينيين والعرب أجمعين، والتي لا تعد ولا تحصى؟ لا أعتقد، بل أجزم أنه من غير المستطاع ذلك.
لا أبالغ أبداً عندما أقول أن نظرة عابرة على ما اتخذته وأقرته إدارة الرئيس السابق جورج بوش الرعناء من قرارات وقوانين جائرة وما أصدرته من وعود وتصريحات وبيانات ومواقف نافرة بخصوص منطقة الشرق الأوسط وبأخص الخصوص الوطن العربي خلال فترتي تربع بوش على سدة الحكم في البيت الأبيض اللتان امتدتا من كانون الثاني 2001 بموجب نتائج انتخابات تشرين الثاني 2000 وحتى كانون الثاني 2009 موعد تسلم الرئيس الحالي باراك أوباما مهام مسؤولياته في البيت الأبيض، تكفي للتدليل على مدى التطابق بين السياسة الخارجية لكل من واشنطن وتل أبيب، وبالأخص في ما يتعلق بمسألة الصراع العربي ـ الصهيوني. ولربما أن هذه النظرة تكفي أيضاً للتدليل بشكل أوضح وأدق على أن كل ما أقدمت عليه الإدارة الأميركية السابقة بشأن هذه المسألة وما اقترفته من جرائم وما ارتكبته من حماقات بحق العرب عامة والفلسطينيين خاصة، ما كان بالإمكان حدوثه بالكيفية العدائية التي جاءت عليه لو لم تتدخل فيه الإرادة الصهيونية عبر بنات أفكار المحافظين الجدد الذين كانوا متغلغلين بداخلها وكانوا يحكمون قبضتهم الحديدية على كل مفاصلها الحيوية.
فقرار غزو واحتلال العراق وتدميره بالأشكال والطرق الهمجية والانتقامية التي حصلت كان بلا شك ثمرة من ثمرات بنات أفكارالمحافظين الجدد، ووقفت وراءه الإرادة الصهيونية. وجميع المسوغات والذرائع الواهية التي فبركتها المطابخ السياسية والإعلامية الأميركية وسوقتها المطابخ السياسية والإعلامية البريطانية والغربية بشكل عام لارتكاب جريمة الغزو والاحتلال والتدمير بما في ذلك كذبة "أسلحة الدمار الشامل العراقية"، لم تكن سوى بدع وأضاليل واهية لإخفاء رغبة هؤلاء المحافظين الجدد الموتورين والحاقدين في تدمير العراق وتفتيته إلى شيع وقبائل وطوائف ومذاهب وأعراق تتلهى بالاقتتال في ما بينها، وعزله بشكل نهائي عن محيطه العربي وشطبه من معادلةالصراع العربي ـ الصهيوني، وسرقة ثروته النفطية الهائلة.
وقرار إدراج الحركات والأحزاب العربية المقاومة للاحتلال والهيمنة مثل حركتي "حماس" و "الجهاد" الفلسطينيتين و"حزب الله" اللبناني على قوائم "الإرهاب الدولي"بالتزامن مع إدراج مَن تبقى مِن الأقطار العربية الممانعة التي تفاخر بأصالتها العربية وتجاهر بثوابتها الوطنية والقومية وتفصح دون خوف أو وجل عن عدائها وتصديها لمطامع ومخططات الولايات المتحدة الاستعمارية ومطامع ومخططات الكيان الصهيوني الاستيطانية ـ التوسعية على ذات القوائم وإصدار قوانين خاصة لمحاسبتها، كان هو الآخر ثمرة من ثمرات بنات أفكار المحافظين الجدد ووقفت وراءه الإرادة الصهيونية.
والقرارات التعسفية التي اتخذتها الإدارة الأميركية بشأن فلسطين، من محاربة أبنائها بشكل تعسفي وعلني وحض الكيان الصهيوني الفاشي على رفع وتيرة اعتداءاته الإجرامية اليومية المتواصلة ضدهم وإثارة العداوة وافتعال التقاتل في ما بينهم ومحاصرتهم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وطبياً وصولاً إلى محاصرة بُطونهم وأمعائهم التي هي بالأصل خاوية إلا من رحمة الله تعالى، منذ حصول "حماس" على الأكثرية النيابية في انتخابات 25 كانون الثاني 2006، كانت أيضاً من ثمرات بنات أفكار المحافظين الجدد ووقفت وراءها الإرادة الصهيونية.
فالمحافظون الجدد المتصهينون عندما أقروا ما أقروه من قرارات وسنوا ما سنوه من قوانين وأصدروا ما أصدروه من وعود وتصريحات وبيانات واتخذوا ما اتخذوه من مواقف بشأن العرب وعندما أنزلوا ما أنزلوه بهم من جور وظلم وتعسف عبر إدارة جورج بوش الابن أو بدعم غير مباشر منها، إنما فعلوا ذلك بناءً لإرادة صهيونية طاغية همها الوحيد إضعاف وتحجيم أي قوة عربية رسمية أو حزبية أو شعبية قادرة على القيام بفعل مقاوم أو ممانع ضد الكيان الصهيوني، وإخضاعها لمشيئة هذا الكيان وإجبارها على القبول به كسلطة احتلال دائمة والتسليم بسياسة الأمر الواقع القائمة في الأراضي العربية المحتلة، وفي مقدمها الأراضي الفلسطينية.
يُستدل مما سلف ذكره أن كل ما كان يدور في خُلد إدارة المحافظين الجدد بشأن منطقة الشرق الأوسط وما سعت إلى تحقيقه فيها وبالذات في الوطن العربي تركز على تطبيق سياسة الكيان الصهيوني وتنفيذ استراتيجيته رغبة في تحقيق أهدافه واستمرار احتلاله لتراب فلسطين وأجزاء أخرى من الوطن العربي بمنطق القوة وبدبلوماسية البوارج والقاذفات الصاروخية، باعتبار أن تلك الأهداف تتقاطع مع الأهداف الأميركية، وباعتبار أن هذا الكيان اللقيط هو ربيب للإمبريالية الأميركية الجديدة التي أفرزها النظام العالمي الذي استجد مع نهاية الحرب الباردة وانحسار نفوذ الاتحاد السوفييتي كقوة كونية عظمى ثانية بعد تجزئته وتفتيته إلى دول وجمهوريات لا حول ولا قوة لها وخروجه من ساحة المواجهة الدولية وتركها للولايات المتحدة تصول وتجول وتعربد فيها وحدها كما تشاء وتهوى!!
وبمعنى آخر يمكن القول دون ما جُهد أو عناء تفكير أن ما فعلته تلك الإدارة الأميركية الحمقاء في منطقة الشرق الأوسط بما فيها طبعاً الوطن العربي منذ استلامها مقاليد السلطة في واشنطن وحتى رحيلها، حدث بإرادة صهيونية عبرت عن نفسها من خلال بنات أفكار المحافظين الجدد، وجاء أولاُ وأخيراً من أجل عيون الكيان الصهيوني العنصري وحكامه ومستوطنيه الذين استُوردوا إلى فلسطين بموجب أوامر شحن غير مرخصة. إنها حقاً سطوة الإرادة الصهيونية على الإدارة الأميركية بكل ما في الكلمة من معان تعارفت عليها المعاجم والقواميس في كل اللغات.
الآن وبعد أن دخلت الإدارة الأميركية الديمقراطية برئاسة باراك أوباما النصف الثاني من العام الأول لولايتها الثانية في البيت الأبيض يمكن الجزم بما لا يدع مجالاً للشك بأن هذه الإدارة لم تظهر تميزاً عن الإدارة الجمهورية السابقة برئاسة جورج بوش الإبن بخصوص العرب وقضاياهم وفي طليعتها القضية الفلسطينية، بل أن كل المؤشرات دللت على خضوعها التام لسطوة الإرادة الصهيونية، ولربما بشكل أسوا وأخطر مما كانت عليه تلك الإدارة والإدارات الأخرى التي سبقتها. وهذا بالطبع يسقط كل مراهنة محتملة من قبل عرب أميركا على أن تكون واشنطن في ظل الإدارة أوباما وسيطاً حيادياً وغير منحاز في أي مفاوضات قد ترى النور بين الفلسطينيين والصهاينة في المستقبل، حالها كحال إدارة بوش السابقة والإدارات التي سبقتهما. ولربما أن أسلوب تعاطي واشنطن والمعسكر الغربي التابع لها مع ما يسمى "الربيع العربي" وبالأخص في ما يتعلق منه بسوريا ونهج الممانعة العربي خير دليل على ذلك!!