الدكتور غالب الفريجات
كثير من الرجال يولدون، ويدبون على هذه الارض كدبيب النمل، ويمرون على هذه الحياة كلمح البصر، ويسيرون بين امواج البشر، وهم الاغلبية الساحقة من هذه المخلوقات البشرية، ولكنهم القليلون الذين يتركون اثرا، ويشقون طريقا، وينحتون مجدا، ويصنعون تاريخاً، وتبقى ذكراهم مخلدة على مر التاريخ، هم صناع التاريخ ورموزه، وهم عباقرة الارض، والقديسين عليها، بما اعطوا للبشرية، وقدموا للانسانية، وهم انبياء الارض بدون ان تكون بايديهم ديانة سماوية، لان الديانات الارضية التي امتلكوها، واعطوا عصارتها للانسانية، كانت تضيئ طريق الحياة، والمجد والمستقبل لكل الناس، وخاصة للذين يؤمنون بافكارهم ومبادئهم، لان الديانات الارضية، بما تمتلك من اخلاق ومبادئ، تعتبر استكمالا لما جاءت به الديانات السماوية، وهي لا تتقاطع معها، بل تعتبر نموذجا ابداعيا للعقل الانساني، الذي ابتدعه الخالق، واودعه اكرم خلقه، ولكن هذا العقل قد تتفاوت قدراته بين واحد وآخر، وقليل ممن يمتلك عقلا تنضج فيه المعرفة، من بين كل هؤلاء المخلوقات البشرية.
من قلب المعاناة، معاناة الذات، ومعاناة الأمة، ظهر الطفل يصارع الحياة، فامتزجت معاناة الذات بمعاناة الأمة، وترعرع في هذه الحياة، التي كانت تصارع فيها الأمة من أجل وحدتها وحريتها، وعدالة الاجتماع فيها، لأنها كانت الأمة الوحيدة التي استهدفت في جوهر بنائها، فكان أن وجد المبادئ التي تلبي رغبة شبابه، وتجيب على الأسئلة التي كانت تدور في مخيلته، لتعطي لارادة الشباب ما يمكن ان يحقق طموح أمته، من خلال النضال الوطني والقومي، الذي وجد فيه الطريق الذي سيحقق الطريق ما تصبو اليه النفس التواقة، بالارادة والايمان والعزيمة، التي ستنجز للأمة اهدافها، فكان البعث طريقه الذي كان يرى فيه الاجابة على كل الأسئلة المحيرة للنفس، والقادرة على أن توصله الى نهاية الطريق لبناء أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.
كان الأستاذ المؤسس ينبوع عطاء، وكان ملهماً للقائد الشهيد على مدار سنوات حكمه، فقد استطاع من خلال استيعابه لنظرية الثورة والحزب، ان يطور من افكار ومبادئ الحزب، الذي تسلم قيادته، فنهض بالثورة والوطن، حتى غدا الوطن محجاً للثورة العربية وللثوار، وسنداً قوياً للمناضلين والمقاتلين، من اجل انتزاع الحرية، وتحرير المغتصب من ارض الامة، وسدا منيعا في وجه الريح الصفراء، التي هبت من البوابة الشرقية، متذرعة بالاسلام زورا وبهتانا، فتمكن بالارادة والايمان وبالصمود الاسطوري، ان يدحر قوى البغي والعدوان المجوسي، مما اثار عليه قوى الامبريالية والصهيونية، المتحالفة مع قوى المجوسية، عندما تبنى نضالات التحرير والجهاد على ارض العرب، في قضيتهم المركزية.
صدام حسين واحد من هؤلاء العباقرة، التي انجبتها الانسانية، وبشكل خاص امتنا العربية، فقد امتلك ناصية العلم والمعرفة والخلق والشجاعة، وامتلك ارادة التحدي والانتصار بالمبادئ على الذات، و قد عزز ما امتلكته ارادة التحدي التي امتاز بها، قوة الايمان بالمبادئ التي آمن بها، فزاوج بين الايمان بالمبادئ الالهية والمبادئ الارضية، حتى استطاع ان يكون معلما في جوانب الحياة، بشتى صنوفها وانواعها، فاخاف اعداءه قبل ان يبهر رفاقه ومريديه، بسعة العقل وقوة الادراك.
عاش حياته بالتحدي والانتصار على الذات، فاكتسب مراسة في الحياة وعزز على الدوام ارادة الايمان، التي كانت عميقة في صدره، فاعتركته الحياة، كما كان صلبا لا ينكسر امام اهوالها، وجعلت منه كالقديسين في ممارساته وسلوكياته، فعافت نفسه كل رذيلة تحط من قدر الانسان، كيف لا وهو القائد القدوة والرمز لرفاقه، مما جعل منه متقدما على جميع رفاق حزبه، واكتسب محبتهم وتفانيهم واخلاصهم في القبض على جمر المبادئ، فتسابقوا على حمايته، من خلال اعلان الولاء والاخلاص لما آمن به من مبادئ.
صدام حسين بات اسطورة الرجال، الذين تفانوا في الالتصاق بالمبادئ، والاخلاص من اجل هذه المبادئ، فاستوت امامه الحياة مع التضحية بها، فلم يأبه لا للسجن ولا لصنوف المطاردة ولا لحياة التشرد، كما لم تبهره السلطة، ولم تأخذ من ايمانه بالمبادئ، ولم تقارعه فتصرعه، لا بل قد صرع السلطة عندما حانت ساعة التضحية بها، من اجل المبادئ التي آمن بها، فالسلطة في نظره ما هي الا وسيلة لتحقيق المبادئ، وعندما حانت ساعة المفاضلة بين السلطة والمبادئ، كان انحيازه سريعا وبدون تردد الى جانب المبادئ.
قليلون هم الرجال الذين يعيشون السلطة والثورة معا، وقليلون ايضا من يمارس السلطة بطريق الثورة، ويمارس الثورة من خلال المبادئ، والسعي لتحقيقها، والثبات عليها ايا كانت الصعاب، ومهما كبرت التضحيات، وايا كانت المغريات التي تحرف السلطة عن ممارسة الثورة.
صدام حسين انتصر بالثورة على السلطة، عندما حانت ساعة التخلي عن السلطة لصالح الثورة ومن اجل المبادئ، وهو من امتلك ارادة الانتصار على الذات، حتى في احلك الظروف واقساها على المرء، فمن فقد السلطة والولد والحفيد بطيب خاطر، من اجل ان تبقى المبادئ مشرعة مرفوعة في عنان السماء، لن يكون الا رجلا قل مثيله، ومن يواجه الموت بشجاعة الرجال الرجال، ولم يضعف لا امام الحياة، ولا لمغريات السلطة، حري به ان يكون من طينة غير طينة ما جبلت عليه النفس البشرية، التي اعتادت عليها البشرية.
قلب الشهيد يوحي انه عامر بالايمان، ايمان بالمبادئ، وانه هذب النفس ووطنها على الخضوع لهذه المبادئ، فامتلكت نفسه القدرة والشجاعة امام ملك الموت، الذي يقهر النفس البشرية، فما كان موقفه امام منصة الموت الا نموذجاً، قلما تجد له مثيلا في السلوك البشري، وما كان في مواقفه في الدفاع عن الحق والمبادئ في مواجهة اعداء الله والتاريخ والانسانية، الا دروسا وعبرا لن تجد لها في بطون التاريخ مثيلا، فقد حفر له عنوانا متميزا على صفحات التاريخ البشري، ونصب تمثالا له، لن يكون الا واحدا من اعظم التماثيل التي صنعتها اليد الانسانية على مر العصور.
في ذكرى ميلاد رجل اكبر بكثير من عظيم، لان العظماء كثر، ولكنهم يتفاوتون، وصدام حسين واحد من المتقدمين في العظمة على اقرانه، في الذين امتلكوا ناصية السلطة، لانه لم يؤمن بالسلطة، الا كوسيلة لتنفيذ المبادئ، التي عاش وضحى من اجلها، فكانت حياته حافلة بالبطولة، وقد عاش بطلا في الذود عن المبادئ ومات شهيدا، من اجل ان تبقى هذه المبادئ، رغم حقد الحاقدين، ونعيق الناعقين، لان من يؤمن بأمة كانت ولا تزال امة الحق والخير والمبادئ، لابد وان يكون في مستوى هذه المبادئ، وصدام حسين كان كبيرا في ايمانه، وفي نضاله وفي استشهاده.
الامة الولود لن يكون في مقدورها ان تنجب كل يوم عظيما من بين ابنائها، ومن هنا كانت ولادة رجل عظيم كولادة صدام حسين، عزيزة على قلوب الامة، وقد ترك رحيله درسا لابناء الامة، وكما يقول هو المنية ولا الدنية، فارادة الشجاعة وارادة الايمان تقبل عن طيب خاطر، تقدم الشهادة على ان تثلم المبادئ، او تنتكس الرايات، الم نجد مثل ذلك في شهداء مؤته، وقد تكرر ذلك في موقف الشهيد بطريقة اخرى في مواجهة الاستشهاد على المنصة التي واجه فيها ملك الموت.
عندما تنهض الأمة من كبوتها عن قريب باذن الله، ستعلي من شأن عظمائها اكثر واكثر، لانها ستكون قادرة على ازاحة الدخان الذي يغطي سماءها، وتنقي البيئة من الفساد الذي بات يزكم الانوف، فهاهي تباشير النصر في الثورات الشعبية، وبشكل خاص في تونس ومصر، وهاهي الرؤوس العفنة التي تآمرت على العراق وصدام حسين، تسقط ذليلة مدحورة، رغم ما قدمت من الولاء والطاعة لاسيادها، اعداء الامة، فلم يعد يشفع لها عندهم حجم خياناتهم الوطنية والقومية امام ارادة التغيير، التي نهضت بها الجماهير الشعبية، وهاهو الزمن العربي الشعبي الجديد، يؤشر على الفرق بين رحيل شهيد، امتلك ارادة الحياة، ورحيل عميل امتلأت نفسه بالخيانة والفساد، فاكتشف عهره الخياني، وبات مدحورا مذموماً، تلاحقه لعنات الجماهير في كل زمان ومكان، بسبب ما تكشف من سجل اسود في حق الوطن والمجتمع، في الوقت الذي تشيع ذكرى الشهيد بالرحمة، وفي كل يوم تزداد الصورة وضوحا واشراقا، لما كان يتمتع به الشهيد من نظافة ممارسة وسلوك في كل الجوانب الادارية والمالية والاخلاقية.
امة تنجب رجلا عظيما بعظمة صدام حسين، لن يكتب لها التاريخ الا النصر، وهي قادرة على المواجهة، ايا كانت قوى البغي والعدوان، وايا كان حجم التآمرات، التي تحاك في ظلمات الليل، وفي دهاليز الغرف المظلمة، وزوايا البيوت الامبريالية العفنة، لان مثل هؤلاء العظماء قد تركوا ارثا من المبادئ، ورجالا آلوا على انفسهم الا ان يكملوا المشوار، من اجل تحقيق المبادئ، مبادئ امة اختارها الله من بين امم الارض، ان تحمل اعظم رسالة سماوية، واودع مبادئ هذه الامة في نفوس وعقول ابنائها، الذين كان من بين عظمائها رجلا عظيما، على طريق اولئك الذين رسموا طريق هذه الامة، حول صاحب الرسالة ونبيها.
في ذكرى ميلاد رجل عظيم، نوطن النفس على ان تكون ذليلة امام مغريات الدنيا، ومتطلبات الحياة الانسانية الزائلة، لان البقاء للمبادئ التي تشكل بوصلة الطريق لنهوض الامة، التي تسعى ان تنهض من كبوتها، من اجل تحقيق وحدتها وحريتها واستقلالها، وحياة حرة كريمة لجميع ابنائها.
في ذكرى ميلاد الرئيس الشهيد، شأبيب الرحمة على روحه، وعلى ارواح رفاقه، وعلى ارواح كل شهداء الامة.