يونس السيد
النكبة، بكل ما تعنيه من تطهير عرقي وتهجير قسري جماعي وجرائم إبادة ومذابح وحشية واقتلاع بشري لمئات آلاف الفلسطينيين من وطنهم إلى المنافي القريبة والبعيدة، ما بين دول الجوار ودول العالم، هي التعبير الأبلغ عن حجم الكارثة التي ألمّت بالفلسطينيين. ورغم أن الكثيرين يؤرخون لها بيوم 15 مايو/أيار عام 1948، ويربطونها بإعلان إنشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، فإنها لم تولد في هذا التاريخ، وإنما سبقت ذلك بكثير، ولم تنته عنده، فهي لا تزال متواصلة ومستمرة حتى يومنا هذا، ولا يمكن محو آثارها إلا بإزالة أسبابها، وإعادة الحقوق والوطن المسروق بالقوة إلى أصحابه الشرعيين.
كان وعد بلفور عام 1917، وعد من لا يملك إلى من لا يستحق، مفتاح النكبة الفلسطينية، وقد بدأت بريطانيا بتنفيذه فور اجتياح قواتها بقيادة الجنرال اللنبي لفلسطين واحتلاله القدس، منهياً بذلك تبعيتها للدولة العثمانية المهزومة، حيث فتحت أبواب الهجرة على مصراعيها أمام اليهود القادمين من مختلف أنحاء العالم، وبدأت بتنظيم العصابات الصهيونية وتسليحها بأحدث الأسلحة، بالتزامن مع محاولات الاستيلاء على الأرض بشتى الوسائل والسبل. لكن يقظة الفلسطينيين أشعلت روح الثورة لديهم، ورغم الفرق الهائل في موازين القوى، فقد خاضوا سلسلة طويلة من عمليات المقاومة والثورات، تخللها أطول إضراب في التاريخ، وثورة عام 1936، ضد الاحتلال البريطاني وعصابات الهاغاناة وشتيرن واتسيل وغيرها من العصابات الصهيونية، وصولاً إلى حرب عام 1948، حيث دخل جيش الإنقاذ بمشاركة 7 دول عربية بقيادة فوزي القاوقجي، لينتهي الأمر بهزيمة جيش الإنقاذ واحتلال نحو 80٪ من أرض فلسطين التاريخية، وتشريد نحو 750 ألف فلسطيني وتدمير وإزالة 523 قرية عربية عن وجه الأرض.
مياه كثيرة جرت منذ ذلك التاريخ، تخللتها حروب ومذابح جماعية سالت فيها أنهار من الدماء، لتبقى النكبة قائمة بكل تفاصيلها وألوانها، ويبقى المشروع الصهيوني ماثلًا بفضل دعم الدول الغربية والاستعمارية، بل يحاول التمدد والتوسع مستفيداً من الواقع الفلسطيني والعربي والدولي.
يحيي الفلسطينيون ذكرى نكبتهم الثامنة والستين، وهم في حالة لا يحسدون عليها، فالتشرذم والانقسام وغياب البوصلة هي عنوان المرحلة، فيما العرب منشغلون بمعالجة قضاياهم الداخلية بعد «ثورات الربيع» التي لم تزهر أبداً حتى الآن، ودفعت القضية الفلسطينية، قضية العرب المركزية، إلى آخر سلم الأولويات، بينما العالم منهمك في حربه على الإرهاب، ومعالجة أزماته الاقتصادية والاجتماعية. المستفيد الوحيد من كل ذلك هو الكيان الصهيوني، الذي يسعى إلى تثبيت احتلاله وإغراق الأراضي المحتلة بالمزيد من الاستيطان والتهويد ومصادرة الأرض وتشريد ما تبقى من الفلسطينيين لفرض أمر واقع يصعب، إن لم يكن من المستحيل، تجاوزه أو إزالة آثاره. لكن النكبة، ورغم كل مرارتها، لم تتسرب إلى نفوس الفلسطينيين ولم تضعف عزيمتهم، وبصريح العبارة لم تهزم الإنسان الفلسطيني الذي لا يزال يقاوم، ولم تخمد جذوة المقاومة التي لا تزال متقدة، وكل ما يحتاج اليه الفلسطينيون هو العودة إلى مشروعهم الوطني الجامع وبرنامجهم الكفاحي على قاعدة المقاومة التي ستظل هي السبيل الوحيد للحرية والاستقلال بلا رتوش ولا مقدمات.