د. يوسف مكي
لا يهدف هذا الحديث إلى تقديم قراءة تاريخية للأسباب التي أودت لاغتصاب الصهاينة لفلسطين، فقد كانت هذه الأسباب، موضوعا لأحاديث سطرت في أعوام سابقة، وبمناسبة حلول ذكرى النكبة الفلسطينية. ما نتطلع إلى مناقشته في هذه القراءة، هو وضع نتائج النكبة، والقضية الفلسطينية بمجملها في سياقها التاريخي، باعتبارها قضية العرب المركزية، كما هو مدون في الأدبيات السياسية العربية، منذ تأسس الكيان الغاصب، قبل قرابة سبعة عقود.
لقد ارتبط الصراع العربي الصهيوني زمنيا بتأسيس النظام العربي الرسمي، الذي نشأ في المرحلة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية. ومنذ البداية ساد وعي قومي بأن التجزئة هي من أهم العوامل الرئيسية في انتصار المشروع الصهيوني.
كان المفكر القومي ساطع الحصري قد اهتم كثيرا بقضية الوحدة العربية، والقضية الفلسطينية على السواء. وإثر هزيمة الجيوش العربية في حرب النكبة عام 1948م، سأله أحد المهتمين بكتاباته وتنظيراته، كيف هزمت الجيوش العربية، مع أنها سبعة جيوش في مواجهة جيش واحد، أجابه المفكر الحصري، في تعبير بليغ جدا أنها هزمت لأنها سبعة جيوش.
منذ النكبة أصبحت النظم العربية بأسرها تستمد مشروعيتها من الالتزام بالقضية الفلسطينية. والأقطار العربية، التي كانت مقتصرة على سبعة، تجاوزت العشرين في مطالع السبعينيات، بعد أن طرح حزب العمال البريطاني مشروعه الانسحاب من شرق السويس، بسبب الأزمة الاقتصادية الحادة التي عصفت ببلاده آنذاك. فكانت نتيجة ذلك أن حصلت بلدان الخليج العربي مجتمعة على استقلالها السياسي، ليكتمل استقلال البلدان العربية، فلا تبقى تحت الاحتلال إلا فلسطين.
منذ البداية ارتبط النضال العربي، وبعد التجربة المريرة للنكبة، وتكشف عجز الدول العربية منفردة عن الاضطلاع بتحرير فلسطين، ارتبطت قضية الوحدة العربية بمشروع تحرير فلسطين. وأصبح مستوى الاقتراب من هذه القضية هو الذي يمنح الشرعية للنظم العربية. وكان التعهد بالعمل على تحرير فلسطين المغتصبة يتصدر كل بيانات الانقلابات العسكرية التي حدثت بالبلدان العربية، في حقبتي الخمسينيات والستينيات.
وانتقل ذلك لاحقا للأحزاب السياسية العربية، بما في ذلك الأحزاب اليسارية، التي تماهت في المرحلة الأولى مع التنظيرات السوفييتية، لكنها وجدت نفسها معزولة عن الشعب العربي، فاضطرت في حقبة الستينيات من القرن المنصرم، للقيام بمراجعة نقدية لمواقفها من القضية الفلسطينية، واقتربت رويدا رويدا من الطرح القومي العربي، تجاه الموقف من الكيان الصهيوني، باعتباره كيانا استيطانيا أوروبيا، زرع في الأرض العربية، ليحول دون تقدمها ووحدتها. ليس ذلك فحسب، بل إن القضية الفلسطينية ذاتها أصبحت عامل توحيد، وتحشيد للطافات العربية، بحيث يمكن القول أن النظام العربي الرسمي، وجامعة الدول العربية، ما كانا لهما أن يستمرا لولا القضية الفلسطينية.
ويكفي أن نذكر في هذا السياق إلى أن أول مؤتمر قمة عربي عقد في الستينيات من القرن المنصرم، كان السبب في انعقاده هو مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية على نهر الأردن، الذي كانت إسرائيل تعمل على تحويل مجراه لصحراء النقب. وقد تمخض عن ذلك الاجتماع خطوات عدة أهمها تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، وجيش التحرير الفلسطيني، وتوقيع معاهدة الدفاع العربي المشترك.
وتعددت مؤتمرات القمة، بعد النكسة عام 1967م، لإزالة آثار العدوان، ومؤتمر آخر بعد معركة العبور العظيم، لصياغة استراتيجية الأمة في مواجهة الغطرسة الصهيونية. وليعقبها قمة عربية أخرى، تتبنى وحدانية تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني. وفي الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي أطلقت القمة العربية عدة مبادرات لتسوية الصراع العربي الصهيوني، أهمها المبادرة العربية. وحين نسوق هذه الأمثلة، لا نتخذ منها مواقف معيارية، سواء بالرفض أو التأييد وإنما لنؤكد على أن القضية الفلسطينية كانت الصمغ اللاصق لتماسك النظام العربي، وحين يبتعد العرب عنها يحدث الانفصام والانقسام.
عندما عقد المؤتمر القومي الإسلامي، في بيروت قبل فترة قصيرة، في ظل انقسام أفقي ورأسي كبير بين التيارين العروبي والإسلامي، وافتراق في الرؤية لتطبيقات المشروع النهضوي العربي، كان السؤال عن القواسم المشتركة، التي يمكن أن تجمع بين التيارين في ظل الاحتراب المعمد بالدم بينهما، في عدد من الأقطار العربية. وكانت كل المؤشرات تؤكد على صعوبة إن لم يكن استحالة العمل بين التيارين. لكن القضية الفلسطينية، وقدسيتها في الوجدان والضمير العربيين حضرت لتنقذ الموقف.
فمن من الحاضرين لا يؤمن بتحرير القدس، ومن منهم يرفض الكفاح من أجل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، على الأراضي التي احتلها الصهاينة في يونيو عام 1967م. ومن هو الذي يملك الجرأة ليقول بأولوية قضية أخرى، على القضية المركزية للعرب. ومن هو الذي لا ينظر بعرفان وتقدير لعمليات المقاومة الباسلة، في فلسطين سواء على صعيد الكفاح المسلح، أو النضال الشعبي، من أجل تحقيق هدف التحرير. من الذي لا يرفض تهويد القدس، أو يعترف بيهودية دولة الكيان الغاصب. وهل هناك من يستطيع رفض حق العودة لأكثر من خمسة ملايين فلسطيني شردوا من ديارهم، وبقوا يعيشون في الشتات في ظل أوضاع بائسة، وعمل صهيوني دءوب لتذويب هويتهم.
في ظل التشتت والضياع، وحيث الخراب والدمار وحروب الطوائف التي تزحف سريعا على الوطن العربي، مهددة وحدة كياناته الوطنية، لا يبقى من أمل لاستعادة روح التضامن والوحدة، إلا بالعودة للثكلى النازفة بالجرح، منذ وعد بلفور أثناء الحرب الكونية الأولى، واستمرارا بالهجرة اليهودية المكثفة إلى فلسطين منذ ذلك التاريخ، وحتى قيام النكبة ليس هناك من طوق نجاه للعبور من حالة التردي الراهنة، إلى فلسطين فهي بوصلة التصدي لكل العصبيات، وهي الدواء لمعالجة الجروح النازفة في معظم أقطار الوطن العربي.
في ذكرى النكبة الفلسطينية وفي ظل حالة التشظي الراهنة نعيد التأكيد على أن استعادة توجيه البوصلة نحو فلسطين، هي طوق نجاه الأمة، وإيقاف حروب الطوائف، واستعادة روح التضامن والوحدة، وتحرير الأرض الفلسطينية المغتصبة.