نجاح أي مشروع نهضوي يرتبط بتوفر ثلاثة عناصر أساسية، لانطلاقه. لعل أهمها وضوح أهدافه وبساطة طرحه، وابتعاده عن التعقيد، ووجود حاضن سياسي له، وتمكنه من استقطاب جمهور واسع من حوله.
المشروع النهضوي العربي، لا يختلف حاله عن هذا التوصيف. فهذا المشروع، منذ بداياته الأولى التي تعرضنا لها في حديثنا السابق، في مقدماته كان حاصل جهد فكري، وموقف نظري، تبنته نخب التنوير، والمناضلون الذين قادوا حركة النهضة في مرحلتها الأولى، منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر. وكانت مرحلة التنوير قد وجدت في محمد علي باشا حاضنا لها، من خلال تبنيه لتنمية مصر وتعزيز استقلالها، ونهضتها العلمية والثقافية، ليتحول المشروع من إرادة كامنة، إلى واقع متحقق على الأرض. ولأن المشروع بطبيعة تشكله نخبوي، ولم يكن معني بالتفاف الجمهور من حوله، سقط بسقوط تجربة الباشا، وفشل ثورة عرابي، ولاحقا بروز اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور، وفشل ثورات 1936 في فلسطين، و1939 في مصر، وتوقيع معاهدة بارتسموث في العراق، وجملة من التراجعات الأخرى، التي فرضتها طبيعة الهجمة الاستعمارية على بلاد الشام.
وكان طبيعيا أن تجري إعادة قراءة لمشروع النهضة في مرحلته الأولى، لينبثق من رحم تلك القراءة مشروع نهضوي آخر، بدأت مراحله بالتشكل فيما بين الحربين العالميتين. وكان الاهتمام في تلك المرحلة قد ركز على قراءة الخصائص الرئيسية للاستعمار الغربي، وتشخيص الواقع العربي في تلك الحقبة.
وكان الكشف الأول، للمواجهة القادمة أنها مع استعمار فوقي يعمل على تغيير البنى الإقتصادية للمجتمع المستعمر، لصالح رأسمال الدولة الأم. ويتعامل مع الشعوب المستعمرة تعاملا استعلائيا، لا يرى في حضارة الشعب المضطهد سوى الانحطاط والتأخر والهمجية. وهو فوق ذلك كله، احتلال عسكري، غريب ومتغطرس يمارس فيه أصغر جندي من قوى الاحتلال صلفه على أكبر كبير في الأمة. وهو أيضا احتلال ثقافي، يحاول المحتل عن طريقه قطع صلات الأمة بتاريخها وثقافتها وحضارتها وتراثها كله. إن أخطر ما في وجوده هو إقامته كيانات صغيرة تمكنه من ترسيخ بقائه. يواجه كل هذا، أمة لم تكد تحسم معركتها مع الوجود العثماني حتى تواجه بنوع جديد من الاحتلال، وهي لم تزل ممتشقة سلاحها.
وقد تلازمت هذه الرؤية مع سيرورة تفكك هذا النظام، وصعود نجم حركات التحرر الوطنية في العالم الثالث. وكان تلك الحقيقة من أبرز التحولات الكبرى في منطقتنا العربية. لقد احتضنت حركات التحرر الوطني آمال الشعوب المقهورة، وسعت لرفع ما أحاط بها من حيف، مع توق وتصميم على نيل حق تقرير المصير بظروف غاية في الصعوبة.
وكان الكشف الآخر، هو التمييز بين الطموحات القومية، انطلاقا من الوعي بمفهوم الهوية المعبر عنه بوحدة اللغة والتاريخ والأرض المشتركة، وبين المفهوم السياسي الأوروبي للنظرية القومية، الذي ربط بروز ظاهرة التوجه القومي بصعود الطبقة البورجوازية للحكم. فكان التأكيد على أن الأمة ظاهرة اجتماعية يمكن أن تبرز في كل مراحل التاريخ الإنساني، وليست متلازمة فقط بنمط الإنتاج الرأسمالي. إن الأمة العربية ظاهرة أصيلة ممتدة في التاريخ. وهكذا جاء الربط جدليا بين التحرر وتحقيق الاستقلال، والتخلص من التبعية الاقتصادية، وبين العدالة والتنمية وتحقيق الوحدة. وذلك نقيض للقومية الأوروبية. لقد ولدت الأخيرة في السوق، بينما برزت حركة القومية العربية مناضلة ضد السوق.
حدثت هذه التطورات في البنية النظرية للمشروع النهضوي العربي، في القلب من جملة من الحقائق لعل أهمها ظهور فكرة الحياد الإيجابي، وبروز دول العالم الثالث الحديثة الاستقلال على المسرح السياسي الدولي، وتبلور فكرة تشكيل تجمع دولي جديد يضم مجموعة الدول النامية التي رزحت زمنا طويلا، تحت نير الاستعمار، والتي شهدت بأم عينها الانسحاق الإنساني الذي أفرزته حربين عالميتين مدمرتين. ورأت من مصلحة شعوبها أن تنأى بنفسها عن الانتماء إلى إحدى الكتلتين المتصارعتين: الرأسمالية "الغربية" أو الشيوعية "الشرقية". واستطاعت هذه الدول أن تصبح قوة جماعية من خلال تأسيسها حركة عدم الانحياز، وتبنيها سياسات مستقلة، وابتعادها عن الأحلاف والتكتلات العسكرية.
أما الحقيقة الأخرى، فكانت تنامي الإيمان بقضية الوحدة، حيث غدت حقيقة تحرك وجدان الجمهور. وكان الأساس النظري الذي استندت عليه، الحركة القومية أن المجموعات البشرية التي عاشت على البقعة الممتدة من الخليج العربي شرقا، إلى المحيط الأطلسي غربا، قد جمعها إرث حضاري وتاريخي وثقافي مشتركين. وهي بما يربطها من وحدة لغوية وجغرافية واقتصادية، قدرها الانضواء في دولة عربية، تجعل من رفضها لسياسات الاستعمار وقاعدته إسرائيل رفضا إيجابيا، أدواته ومقوماته عمق الأمة، حين تضع ثرواتها وإمكاناتها ومواردها ومورثاتها مجتمعة في خدمة هذا الرفض، بما يضمن تحقيق الحرية والتقدم والتطور.
وقد انطلقت من التسليم بأن الحرية التي يسعى إلى تحقيقها كل قطر عربي على حدة، تصطدم بمعوقات ومآزق تجعلها لا ترتبط بالواقع بأية صلة، طالما لا توجد سيادة اقتصادية على الموارد المحلية. إن الحرية بالمعنى العميق والشامل هي التي تبلغها الأمة من خلال هيمنتها على مقدراتها، وبنائها لقدراتها الذاتية.
وقد جاء الالتزام بقضية العدل الاجتماعي ليمنح زخما جديدا لفكرة الوحدة، حين ربطها بموضوع التنمية، التي لا يمكن أن تتحقق في ظل البنية الهشة السائدة بالوطن العربي إلا عبر تخطيط اقتـصادي، يلتزم بتنفيذ الأولويـات من المشاريع التي تستجيب لحاجات الأمة. إن التنمية الاقتصادية ذات الأبعاد الكبيرة، بما تتطلبه من رؤوس أموال كبيرة، وقدرات بشرية هائلة، ومواد خام وموارد وأسواق واسعة، لا يمكن أن يضطلع بها أي قطر عربي على حدة، وإنما تتحقق عن طريق تكامل اقتصادي قائم بين مجموعات تتقارب، في برامجها الاقتصادية والسياسية.
وما كان لهذا الجدل أن يجد بيئة أفضل من بلاد الشام. فمنذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر غدا الشام مركزا لحركة اليقظة العربية التي تصدت للاحتلال التركي، ومنه انطلقت الفكرة التي هيأت لاندلاع الثورة العربية ضد العثمانيين. وفيه حدثت أول مواجهة عسكرية بالمشرق العربي مع الاستعمار الفرنسي في معركة ميسلون. وكان هذا القطر من أكثر المتضررين من الحدود التي رسمتها بريطانيا وفرنسا بموجب اتفاقية سايكس بيكو، التي قسم بموجبها الجزء الشرقي من الوطن العربي، وفقا للأطماع الإستعمارية. وكان الشعب السوري قد بدأ، منذ وقت مبكر رصده عن قرب لتطبيق البرنامج الصهيوني لاغتصاب فلسطين، بعد الشروع في تنفيذ وعد بلفور. وكان رواد حركة اليقظة قد أكدوا على التلازم بين العروبة والإسلام، لأن الأمة اكتشفت ذاتها من خلال حادثة تاريخية هامة وبارزة هي بروز الدعوة الإسلامية التي انطلقت من الجزيرة العربية، ونشوء الدولة العربية الإسلامية التي ارتبطت بتلك الدعوة. وعلى هذا الأساس، فإن الإنجاز التاريخي الذي حققه الإسلام للعرب لا يمس في جوانبه الإيجابية العرب المسلمين وحدهم، بل هو انجاز لكل العرب على اختلاف مذاهبهم ودياناتهم، ذلك لأنهم وجدوا أنفسهم أمة واحدة من خلال هذه الدعوة. ومن خلالها أيضا، استطاعوا أن ينشروا رسالتهم الحضارية إلى حيث مشيئة الله، في مختلف أرجاء الكرة الأرضية. ولن يكون بإمكان العرب تحقيق أهدافهم إلا من خلال نقلة تاريخية، تلامس عقل الإنسان العربي وروحه، توضح الرؤية وتقوي العزيمة.. وفي معمعان هذا التحول الذي يحدث في العقل والروح تتحقق أهداف الأمة.
وستبقى محطات أخرى، جديرة بالقراءة والتحليل في أحاديث قادمة.