بمناسبة الذكرى السابعة للعدوان على العراق، واحتلاله من قبل القوات الأمريكية والبريطانية، أقيم في التجمع القومي بالزنج مساء الاثنين الماضي ندوة شملت حدثين هامين حصلا في نيسان (أبريل)، الأول هو انطلاقة حزب البعث العربي الاشتراكي في السابع من نيسان 1947،. والثاني هو سقوط العاصمة العراقية (بغداد) كإحدى قلاع البعث في التاسع من ابريل .2003
وتحدث في الندوة الدكتور يوسف مكي رئيس موقع التجديد، وأحد الكتاب المؤمنين بالفكر القومي وأهميته في علاج الكثير من القضايا على الساحة العربية والدولية، وحضرها عدد من أعضاء التجمع والمدعوين وشاركوا في التعقيب على ما طرحه المتحدث من آراء، واضفوا بذلك روح الحوار الموضوعي الهادف الى نشر التوعية السياسية من جهة، وتأكيد أهمية التمسك بالفكر القومي كأحد الحلول الناجعة لقضايا الأمة العربية لمواجهة ما تتعرض له من تحديات مصيرية من جهة أخرى.
وقد استعرض الدكتور يوسف المراحل التاريخية لحركة القومية العربية، والمصاعب التي تعترض المنادين بها في أنظمة خاضعة للاستعمار مشيرا الى ان البدايات قد تركزت حول المطالبات بالاستقلال عن الاستعمار سواء بالدول العربية أو الآسيوية أو الافريقية، وكلها أيدت وتضامنت مع الحق العربي في السيادة على أرضه، ورحيل المستعمرين البريطانيين والفرنسيين عن بقاعه، مشيرا في هذا الشأن الى القطر المصري والعراق والتجربة الجزائرية وما تعرضت له القوى التحررية من إسقاطات لوأدها.
وأوضح ان مصر احتلها البريطانيون بعد هزيمة العثمانيين، ثم تحصل الثورة فيها مطلع الخمسينيات (ثورة 23 يوليو 1952)، وهي ثورة رفضت الانتداب، وأكدت حق الشعب المصري في السيادة والحكم وحقه في استغلال ثرواته القومية.
وهكذا الحال بالنسبة الى الجزائر، شعب يرفض الاحتلال والتبعية لفرنسا (مشروع الفرنسة)، ويرفض عزله عن الجسم العربي، فتحصل الثورة، ويقدم الشهداء (مليون شهيد) فداء للوطن والامة الى أن قبلت فرنسا باعلان استقلال الجزائر، وانتصار الشعب الجزائري بقيادة جبهة التحرير آنذاك منوها بأن هذه الانتصارات في مصر والجزائر وغيرهما عمقت الترابط بين أفراد الأمة العربية، وأوجدت حركة تضامنية مناصرة لهذه التوجهات الجديدة في جسم الامة العربية.
ومن ناحية أخرى، عاتب المتحدث القوى الفكرية التي كان لها وجود في تلك المرحلة التاريخية لكونها تعاطفت مع المستعمر الأجنبي وذلك لكونها تتصور ان التواجد الاستعماري في الوطن العربي سيعجل من عملية التنوير والديمقراطية، وعلى هذا الأساس وقفت الأحزاب الشيوعية العربية ضد استقلال سوريا ولبنان، وأيدت الهجرة الى فلسطين، ووقف الشيوعيون مع المستعمر الفرنسي في الجزائر، ووصف المتحدث هذه المواقف بمصائب الأمة العربية، ومن التحديات التي واجهتها عبر تاريخها النهضوي والتحرري في العصر الحديث.
وتابع القول: "وعلى هذا الأساس، لم تأت حركة البعث من فراغ، كان الشارع العربي وقتها يعج برفض المساومات، ويقف الى جانب تحرير فلسطين، ومنع الهجرة اليهودية اليها، ويقف مع نضال شعبنا في العراق، ويرفض المعاهدات التي ارتبط بها"، واضاف مازالت حركة (رشيد علي الكيلاني) في العراق عام 1943 بارزة في الذهن ومتقدة بأحداثها، فيما اعتبرها الشيوعيون (مؤامرة نازية ضد التحالف الديمقراطي العالمي).
وتابع تحليله للوضع العربي الفكري في تلك المرحلة التاريخية، وقال: لم تقف موجات التآمر والتمزيق بجسم الامة عند هذا الحد، بل ظهرت منطلقات فكرية أخرى (غريبة)، وطرحت تصورا فكريا نقديا يتحالف مع الغرب وينقل الى المنطقة العربية، لتبقى الامة العربية مقسمة فكريا وقطريا وتابعة للغرب، فيما كان تصور حزب البعث بقيادة (المرحوم ميشيل عفلق) يدعو من خلال كتاباته وفكره الى وجوب التنبه الى مثل هذه الأطروحات.
وقال: "إن عفلق أكد أهمية البناء النظري قبل كل شيء"، واعتبار البناء النظري حالة سابقة للنضال، وأن النضال يتلاقح بالفكر، وبالقدر الذي يتصاعد فيه وتتطور الأفكار وتتقد الرؤى في وضع صيغة جديدة متقدمة لصالح الشعوب سواء التخلص من الاستعمار واستقلالها، أو تلك المتعلقة بأهمية توحيد الجسم العربي، وانقاذه من حالات التشتت.
وواصل الدكتور يوسف مكي استعراض المنطلقات الفكرية للفكر القومي، وقال: "يعتبر هذا التصور بداية لقراءة جديدة لتاريخ حركة التحرر في العالم بنيت على 3 محاور، هي: الاستقلال.. والتنمية.. والحرية"، وهذا ما عبر عنه عفلق في كتاباته بعنوان (التكافل الاجتماعي)، وكان مفهومه للاشتراكية أنها لا تعني القضاء على الفقر حيث يمكن ذلك من خلال جمعيات خيرية وفرض ضرائب لكن الاشتراكية تعني "تخطيطا مركزيا تضطلع به الدولة بشكل جديد لبناء للدولة والمجتمع".
وهذا التخطيط الجديد كفيل بتوفير القوة الاجتماعية والمشروع الاجتماعي باعتباره سابقا للمشروع السياسي رغم صعوبة الفصل بينهما في مرحلة شابها فشل محاولات تحررية، منها على سبيل المثال: فشل حركة عرابي، وفشل ثورة 1919، وتصاعد الهجرة اليهودية الى فلسطين، ووصول ملوك الوصاية الى الحكم في الأردن والعراق، موضحا أن كل هذه المحاولات أكدت أن هذه النخب التي قادت العمل الوطني كانت عاجزة عن تحقيق النجاحات مع اصطفاف منظري البروليتاريا مع المشروع الإمبريالي في المنطقة رغم بروز نجاحات في الافق العالمي كما حصل في الصين وفي دول عدم الانحياز واستقلال دول اسيا وافريقيا وأمريكا الجنوبية.
وتابع، والملاحظ أن كل هذه الانتصارات سارت في صياغة متسقة اعتمدتها جميع حركات التحرر في العالم مع خصوصية كل تجربة، حتى في فكر الأدلجة القومية، ليس بالضرورة ان يؤدي الى حركة قومية كما حصل في الصين وفرنسا وألمانيا، وكانت هناك استجابة للتجزئة، قابل ذلك بروز حركة التحرر العربية، منوها بان الحركة القومية جاءت في انتصاري 23 يوليو في مصرو14 تموز في العراق.. وكانت هذه الانتصارات عبارة عن خطوات تعضيد لمبادئ الحيادية ومنطلقات حزب البعث في الاستقلال والوحدة القومية كبديل عن التشتت القطري الذي مازال جاثما على صدر هذه الامة.
وقال: "كان البعث وفيا لمبادئه، وحقق أول وحدة بين مصر وسوريا عام 1958 وتلتها ثورة 14 تموز في العراق وثورة اليمن"، وكان للبعثيين من أمثال (المرحوم الشاعر الزبيدي) ومن الضباط العسكريين دور في هذه الثورة حتى جاءت حركة الانفصال في العراق ثم في سوريا، وتفتت التجربة لكن البعثيين ضاربين في التربة العراقية، وفي أقل من خمس سنوات عاودوا الكرة في 1968، وصلوا الى السلطة، واستمروا الى .2003
وقال: كان مقدرا لها أن تستمر باتجاه تحقيق مبادئها لولا تدخل الجيش الامريكي المعد لمواجهة جيش دولة كبرى هي (الاتحاد السوفييتي)، وكانت النهاية احتلال العراق في التاسع من أبريل 2003 لكن البعثيين حملوا سلاح المقاومة مع اول انطلاقاتها خلال أقل من 48 ساعة.
وعلى الجانب الآخر، لم ينس أن يشير الى تجربة البعث في العراق والنجاحات التي حققها إبان حكمه، وتمثل ذلك في تأميم النفط، وحل مشكلة الأكراد في الشمال، بناء الجبهة الداخلية (الوطنية)، بناء مجمعات صناعية (مدينة الإسكندرية) وغيرها من المواقع الصناعية، رافقها صمود أمام الحصار الاقتصادي مدة 13 سنة، وتسقط بغداد في التاسع من ابريل 2003، ويرفع رجالات البعث سلاح المقاومة الوطنية في أقل من 48 ساعة، منوها بأن هذه النجاحات كانت ولاتزال محل اعتزاز وفخر المواطن العراقي والعربي.
وتساءل، قد يتساءل المتابع، لطالما العراق حقق نجاحات، إذن فلماذا احتل العراق؟ واجاب المتحدث في ندوة انطلاقة الفكر القومي والهجوم على العراق "احتل العراق لسبب بسيط،وهو رفض قيادته السير في ركاب التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، ورفضه التبعية للولايات المتحدة"، وعلى هذا الأساس، أصبح النظام في العراق "نظام نشاز" ضمن مفهوم الدول الكبرى التي تريد ان تفرض سيطرتها على العراق .
كما أشاد بدور المقاومة العراقية في نضالها ضد الوجود الأمريكي، والتي جعلت من العراق الرقم الصعب في معادلة الخريطة الأمريكية بالمنطقة، وعلى الرغم من الصراعات والقوائم والحركات السياسية التي برزت بعد الغزو، يظل البعث هو الخط المدافع عن عروبة العراق وحريته وطرد الغزاة من أرضه مشيرا الى أن سنة 2011 هي سنة فاصلة في العراق ولاسيما في ظل الحضور الجماهيري للمقاومة في مناطق الجنوب والوسط، وسيعمل هذا على إضعاف الوجود الإيراني فيها، ووصف ان الصراع في العراق في النهاية سيكون صراعا قوميا تحرريا دفاعا عن عروبة العراق وكرامته الوطنية وهويته القومية، وهذا ما سوف يؤدي بالقطع الى هزيمة الجهات التي تمول وتأجج الصراع الطائفي والاثني على طريقة أفغانستان.