المؤشرات السياسية السلبية في الواقع العربي أصبحت تثير المخاوف وتنذر بمستقبل باهت لا ماهية له، وتستمطر القلق من كافة الجهات، ولذا تبدو لنا مهمة إثارة الأسئلة وملاحقة هذه المؤشرات بالتحليل والنقد من أبرز ما يمكن القيام به لفتح آفاق جديدة للعمل القومي وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والعمل داخل الفراغات التي تتوسع كل لحظة وتوحي بالانفتاق والانفلاش والتذرر، وتقود حتماً إلى الهامشية والاستنقاع·
إننا إذن نلاحق ونتتبع المظاهر والمشاهد والمؤشرات السلبية علّنا من خلال ذلك نضع الحقائق كما هي أمام عقل الانسان العربي المتمسك بعروبته وقوميته، وحتى نثير فيه شهية السؤال والتساؤل ونبدي له الصور التي يمكن من خلالها أن يشتق طريقه نحو الايجابية السياسية والاجتماعية، ونعمّق فيه حسّ التفاؤل وثقافة المقاومة التي هي من المتطلبات الاولية والأساسية لفهم معادلات التراجع والصراع والتزاحم الدائر الآن على إخراج العرب والامة العربية من التاريخ·
والمبادئ المفتاحية لتطوير الفاعلية السياسية والاجتماعية للانسان العربي تبدأ أولاً من الايمان بالحقيقة التاريخية (ولا نقول الحتمية التاريخية !!) التي تؤكد الدور النهضوي والحضاري لهذه الأمة، وفهم سياقات النهضة والسقوط فيها لكي نستخرج من خلال ذلك القوانين التاريخية الناظمة لهذه الأمة، وهي وحدتها وضرورة اتحادها ووجودها المستمر في التاريخ وعدم انقطاعها وتأكيد معطياتها الحضارية التي شكلت في لحظة تاريخية معينة عقل العالم وحكمته وتطوره وأسهمت إسهاماً كبيراً في تطور الحضارة البشرية وتقدمها·
إنه إذن التراث الايجابي الكبير للأمة الذي لا يجوز التفريط فيه أو اختزاله بالانكسارات السياسية أو تهميشه بحجة التغيير الراهن واختلال موازين القوى بين الشعوب والحضارات القائمة· والمحافظة عليه بالمزيد من القراءة الواعية واستيعاب المؤثرات والعوامل التي شكلت وصاغت إيجابيته وحولته إلى مرجعية فكرية وحضارية لاستمداد التقدم والنهضة وتحويل هذه الادراكات الجديدة إلى قاعدة عصرية حداثية للانطلاق نحو النهوض والتقدم في المرحلة الراهنة·
إن القراءة الجديدة لتراثنا وتاريخنا، والتي نراها ضرورية في المرحلة الراهنة، وندعو الانسان العربي للانكباب عليها من أجل تأسيس وعيه المعاصر الجديد، هي ضد القراءة الافتخارية وضد القراءة الماضوية التي تتموضع في الماضي وتحوله إلى صورة وسياق ثابت وجامد لا يأتيه الباطل من أية جهة، وإنما هي قراءة استيعابية واستنهاضية حافزة تريد قراءة السيرة التاريخية النهضوية للامة لتمثلها وإعادة إنتاجها بتصورات وطرائق جديدة وبحمولات فكرية جديدة تعبر عن فهم الامة للعصر وقضاياه ومستجداته ومتغيراته·
إن من شأن ذلك أن يوقف هدر الانسان العربي واللعب بعقله وأخذه مأخذ السلبية والعدمية والهامشية، وتثبيت وعيه القومي المؤمن بهذه الصورة وهذه المرجعية، والتي تتطلب مسؤولية تاريخية دائمة بغية إعادة الاتزان إلى رؤاه المشتتة وفكره الذي تلاعبت به الافكار الاستعمارية والصهيونية أمداً طويلاً، وألجمت نزوعاته نحو الحرية والتحرر وأخرست لسانه الناطق بوحدة الامة ونهضتها·
لقد أعاق الهدر والقهر الانسان العربي عن فهم قضاياه والدفاع عنها وأوقف فيه نزعة التمرد وحب التغيير، إلا أنه لم يجهض فيه الارادة والرغبة الدائمة للدفاع عن ذاته وعن أمته، ولنا في شواهد التاريخ المعاصر ما يؤكد هذه الحقيقة، إذ أن الامة كانت تولد دائماً برامجها وأجوبتها، ولم تستطع أية قوة استبدادية داخلية أو استعمارية خارجية أن توقف في الامة هذه النزعة وهذا الحراك المستمر· إلا أن قوة الهجمة الراهنة وتراكم ضغوطها حال دون بلورة حالة سياسية واجتماعية عربية تحررية ونهضوية لافتة، الأمر الذي بدا للبعض على أنه نهاية مطاف للحراك العربي، أو انها اشارة من إشارات الاضمحلال والتآكل، إلا أن التمعن في كل ما يجري في معم أقطار الوطن العربي يدلل بما لا يدع مجالاً للشك والتساؤل على تلك اليقظة الكامنة التي سرعان ما تنطلق عند كل منحنى، وفي كل لحظة تاريخية ترى الأمة وجودها في خطر، ويجد ذلك تعبيراته السياسية المختلفة والمتباينة في كل قطر عربي وبأشكال تقلب كل التوقعات·
إن التقاط المؤشرات الايجابية في الواقع العربي لا يعني تعميمها أو تحويلها إلى حتميات للتغيير والانقلاب على الواقع الراهن، وإنما هي إشارات على الطريق الطويل الذي لا بد من تعبيده بالرؤى والبرامج المختلفة من أجل تحويل ذلك كله إلى مفردات مقبولة ومعقولة ومحركة للحس التاريخي لدى الانسان العربي، فهذا الانسان الذي اغترب قسراً عن قضاياه يحتاج في المرحلة الراهنة إلى الكثير من الاشارات ووسائل الايضاح القومية لكي ينشبك مجدداً في قضايا أمته، وتساعد في ذلك كثيراً كل المؤشرات الايجابية التي اصبحنا نراها ماثلة للعيان في الوقفة القومية الجمعية مع المقاومة العربية في فلسطين والعراق، وهذا الادراك الجديد بأن مستقبل الامة أصبح يتوقف على هذه المقاومة وامتدادها في الوطن العربي·
إنها تساعد من حيث أنها تفتح أفقاً جديداً كان مسدوداً طوال العقدين الماضيين، وتقدم خياراً آخر للامة اعتقد البعض أنه من مستحيلات الحياة العربية، إنه المشروع البديل الذي ينهض الآن في الافق العربي وفيه كل مفردات النهضة والحرية والتقدم·
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.