قاسم حسين
منذ انهارت أسعار النفط الصيف الماضي، دأبت الحكومة على إرسال مسجات طمأنة بأن اقتصادنا قوي وأننا لن نتأثر على الإطلاق.
كانت كل المؤشرات تؤكّد أن ذلك سيلقي بظلاله الثقيلة على الوضع الاقتصادي المثقل بالأعباء أصلاًً. وقبل ذلك كانت الحكومة تلوّح بإجراءات ما، في مقدمتها اعتماد آليات جديدة لصرف المعونات والدعم الحكومي لبعض السلع الرئيسية والخدمات.
سياسة الدعم التي ساهمت في استقرار اقتصادي طويل الأمد امتد لأكثر من ثلاثين عاماً، تفكّر الحكومة جدياً بالتخلّي عنها تدريجياً، خطوةً خطوةً. وهو ما يتفق مع الخطوط العامة لليبرالية الجديدة التي لا تقيم أي اعتبار للتبعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمثل هذه القرارات.
الحكومة تسوّق اليوم لهذا القرار (رفع دعم اللحوم الحمراء والبيضاء) الذي سيمهّد لقراراتٍ أخرى، تشمل سلعاً وخدمات ضرورية أخرى، على رأسها الكهرباء والماء، والتعليم والصحة… نزولاً إلى المادة الرئيسية التي يعتمد عليها الناس في وجباتهم اليومية: الدقيق.
السلطة حاولت أن تدغدغ نفسية الجمهور بالقول إنها تريد أن تحول دون «تسرب الدعم الحكومي للحوم وتضمن وصوله للمواطنين فقط». ووعدت بتعويضات نقدية مباشرة يحصل عليها كل مواطن بدلاً من طرح اللحوم بأسعار مدعومة يستفيد منها المواطن والأجنبي؛ على أن يكون ذلك من خلال وزارة التنمية الاجتماعية، وهي قناةٌ أثبتت التجارب السابقة قصورها وعجزها عن القيام بواجباتها الأصلية، فضلاً عن تكليفها بمهمات أصعب وأكثر تعقيداً كما جرى في صرف علاوات الغلاء.
القرار سيمس جميع المواطنين والمقيمين، ولن يقتصر على سوق اللحم، بل سيؤثر على قطاعات أخرى أوسع، من مطاعم وفنادق. إلا أن أكثر من سيتضررون به فئتان: المواطنون من الطبقة الوسطى والدنيا، والعمال الفقراء من الأجانب الذين باتوا يشكلون اليوم في مجموعهم أكثر من 53 في المئة من السكان.
المواطن سيضطر بعد رفع الدعم، إلى شراء كيلو اللحم بأربعة دنانير بدل دينار واحد، أي أن هناك زيادةً قدرها ثلاثة أضعاف في سلعة ضرورية واحدة. وقس على ذلك فيما لو تم رفع الدعم عن الكهرباء والماء الذي تذكّر الحكومة المواطنين شهرياً، بأن تكلفة الوحدة ضعف ذلك بعشر مرات.
الأجانب الذين كانت البحرين تعتبر بالنسبة لهم «جنة ضريبية»، بسبب عدم التزامهم بدفع أي نوعٍ من الضرائب المباشرة على الدخل، على خلاف الوضع في بلدانهم الأصلية، هؤلاء سيُضاف عبء بسيط إلى مصروفاتهم الشهرية، لن يتعدى الثلاثة في المئة. إلا أن أكثر المتضررين من الأجانب هم الطبقات الفقيرة من عمّال، الذين يعتمدون في حياتهم على الحد الأدنى من الطعام الرخيص، المتوفر بسبب سياسة دعم الخبز، حتى اللحم لا يذوقه أغلبهم إلا قليلاً.
البحرين كانت تتميز برخص الطعام، وقبل خمس سنوات كنا نتكلم عن تمكن أي مواطن ومقيم من الحصول على وجبة عشاءٍ بدينار أو نصف دينار. هذه القاعدة اهتزت مع موجة ارتفاع الأسعار الأخيرة، وستسقط تماماً مع اعتماد قرار رفع الدعم عن الغذاء. والضرر سيلحق بأوسع شريحة من المواطنين والقاعدة الأكبر من الوافدين الفقراء.
هذا ما تولّده السياسات الليبرالية المتوحشة من إجراءات اقتصادية تهزّ المجتمع، إلى جانب ما اختصصنا به من بين دول العالم، من ظاهرة «الفري فيزا» التي يقف وراءها متنفذون، حيث يقدّر وجود خمسين ألفاً من العمالة الأجنبية السائبة، تعيش على هامش الاقتصاد، وتقوم بمختلف الأعمال المشروعة وغير المشروعة، وتصنفها بعض المنظمات الدولية ضمن الاتجار بالبشر. وفي حمى الحماسة لإجراءات فرض التقشف، لم يسأل أحدٌ عن مصير هؤلاء، وما قد ينتج عنه من زيادة جرائم في هذه الشرائح التي باتت جزءًا من الاقتصاد الريعي القائم على التبعية والاستهلاك.
في بلدٍ تصرف وزارة التنمية الاجتماعية معوناتٍ شهريةً لـ 114 ألف أسرة بحرينية، بدأنا برفع الدعم عن اللحوم الحمراء والبيضاء… لكن الطاحونة ستستمر حتى تفري اللحم وتطحن العظم… «ورجالُ مكّةَ مسنِتُون عجافُ»!