د / يوسف مكي
عنوان الحديث مستقى من عنوان فرعي لكتاب في الوحدة والتداعي، صدر لي من مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت مطلع العام 2003. ومنذ ذلك التاريخ، سالت مياه كثيرة، بدأت باحتلال العراق بعد شهور قليلة من صدور الكتاب، وتدشين عملية سياسية فيه، على أساس القسمة بين الطوائف والأقليات، لتتبعها انهيارات كثيرة في الجسد العربي، طالت بعد ما عُرف بالربيع العربي، الكيانات الوطنية، وكان أبرز معالم المرحلة محاولة القضاء على النظام العربي، الذي تأسّس بعد الحرب الكونية الثانية، وتفتيت الكيانات الوطنية، لكيانات صغيرة، في عددٍ من الأقطار العربية، التي طالها مشروع الربيع، أو الخريف العربي.
ويبقى السؤال العام، الذي يراود معظم المثقفين العرب، والمهتمين بقضايا أمتهم: لماذا تعثرت معظم مشاريعنا النهضوية للخروج من الانسداد التاريخي، الذي تعاني منه الأمة، منذ هيمنة سلطان الاستبداد العثماني، حتى يومنا هذا، رغم كل المحاولات، والتضحيات الجسيمة للخروج من هذه الحالة؟
يقيناً أن الجواب عن هذا السؤال، يقتضي العودة للمقدمات… إلى نقطة البداية، فيما أطلقنا عليه بالتعثر. جاءت مشاريع النهضة العربية، في مرحلتها الأولى، في منتصف القرن التاسع عشر، في القلب من حقائق اقتصادية واجتماعية، ومتغيرات دولية وإقليمية لم تتح للمشروع أن يحقق أهدافه. فقد شهدت تلك المرحلة، انهيار الصناعات الحرفية، وبالتالي انهيار الوضع الاقتصادي المحلي، وتحولنا من صناع إلى مستهلكين.
وكان اكتشاف رأس الرجاء الصالح، قد أضعف دور الموانئ الرئيسية العربية، على حوض البحر الأبيض المتوسط، كميناء الاسكندرية وبيروت واللاذقية وحيفا. وقد ترك ذلك بصماته واضحة، على التشكيل الاجتماعي، وأضيف إلى ذلك الصعود الكاسح، للقوى الصناعية الغربية الفتية، للأسواق العالمية.
والنتيجة أن الصناعة المحلية، بطابعها الحرفي، تم تدميرها بشكل منهجي، ولم تعد قادرة على التنافس محلياً، مع الصناعات الأجنبية. غدا التشكيل الاجتماعي مشوهاً، فلا هو بقي كما كان عليه، بصفته التقليدية السابقة، ولا هو تمكن من الاندماج مع العصر. ما تحقّق هو اندماجٌ من نوع آخر، جعل من القوى التقليدية، طبقة وسيطة وغير منتجة، ليس بمقدورها بحكم تشكيلاتها الجديدة أن تصطنع مشروعها الخاص. فجاء المشروع النهضوي الأول، مرتبكاً في استراتيجياته وأهدافه. وكانت أبرز تجليات هذا الارتباك، هو الاعتماد على حسن نوايا الحلفاء، في تنفيذ المشروع، وتحقيق استقلال المشرق العربي، تحت سلطة واحدة، عن السلطنة العثمانية .
ترك التشكيل الاجتماعي والاقتصادي المشوهان للواقع العربي، بصماتهما على الواقع العربي، فيما بين الحربين، حين امتشق كل قطر عربي سلاحه، على حدة، للتحرر من ربقة الاحتلال الغربي، على معظم بلدان الوطن العربي. وتحقق الاستقلال السياسي، لمعظم الأقطار العربية، في ظروف ووتائر متفاوتة، من حيث أسلوب مواجهة المحتل، وزمان اكتساب السيادة.
أدت حالة الارتباك، إلى انتقائية في اختيار عناصر النهضة، وتغليب عنصر على آخر. وقد نتج عن ذلك سيادة ما أطلقنا عليه في أحاديث سابقة بالمتقابلات، حيث وضعت عناصر النهضة، وبشكل خاص الحرية والعدل الاجتماعي في مواجهة بعضهما، فجرى تغليب عنصر في حين، وأصبح العنصر الآخر، موضع شبهة، لتنتقل الحالة إلى عكسها في مرحلة أخرى، والعنصران: الحرية والعدالة، لازمان، لأي مشروع نهضوي، ولا يمكن الفصل بينهما.
في الخمسينات من القرن الماضي، شهدنا محاولات دؤوبة للانعتاق، ولتغيير المعادلة الاقتصادية، بهدف جعلنا شركاء مع العالم، ولكي لا تتخذ علاقتنا به شكل استتباع. وكانت المعارك ملحمية وضارية، انتهت بنكسة الخامس من يونيو، والانتقال الدرامي في الأهداف والاستراتيجيات، واتخاذ الصراع مع العدو الصهيوني، شكلاً مغايراً. لكن ذلك تزامن مع تراجع العنصر الأول لمشروع النهضة، الحرية التي كانت مبرر مقارعة الاستعمار، والنضال من أجل الاستقلال.
ومنذ السبعينات، تراجعت مفاهيم، وبرزت أخرى، وسادت ثقافة الاستهلاك بدلاً عن الإنتاج، كما جرى تجريف ممنهج للحركة السياسية، ومع ما عرف بنهاية التاريخ، إثر انتهاء الثنائية القطبية، غرقت المنطقة بأسرها في واد سحيق، تمثلت في حروب عبثية عديدة، أفرغت الخزائن العربية من مدخراتها، وأودت بحياة الملايين من البشر، وكان من نتائجها، أن فلسطين لم تعد القضية المركزية والجامعة للعرب، واحتلال العراق، وتقسيم السودان، وما يشبه الحروب الأهلية باليمن والجزائر .
وحين جاء موسم «الربيع العربي»، برز عفوياً بامتياز، لكن نتائجه كشفت أنه ليس سوى محطة أخرى، في صياغة الشرق الأوسط الجديد، المستند على الفوضى الخلاقة. تكشف أن «الثورات العربية»، افتقدت الهدف والاستراتيجية، والحامل للمشروع. وتأكّد مرةً أخرى، مزالق الانطلاق العفوي ومخاطره.
وكانت جماعة الإخوان المسلمين ترقب تطورات الموقف عن كثب، وتستعد للانقضاض على السلطة، في معظم البلدان التي شهدت التحولات الدرامية، وبشكل خاص، في تونس ومصر وليبيا. والهدف هو أخونة الدولة والمجتمع، واختطاف استقلال البلدان العربية، والحيلولة دون قيام دولة مدنية، في تلك البلدان .
حالة الانسداد التاريخي، ليس لها مخرج، إلا بإعادة تركيب التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية، في الوطن العربي، بما ينقلنا من مجتمع مستهلك إلى مجتمع منتج، ونقلنا إلى الحالة الصناعية، حيث نكون ترساً فاعلاً في الحراك العالمي نحو التقدم والنماء. ذلك وحده هو السبيل لحدوث تفاعل خلاق، يسهم في تمازج العناصر الحية في التاريخ، لإثراء وتخصيب مجالات العطاء والفعل.
وهو وحده الكفيل، بتحويل الثقافة العربية، من حالتها الراكدة، إلى الحالة التجريبية النقدية، حيث كل شيء خاضع للتحليل والبرهان. تتواصل عملية الكشف والنضال المعرفي، لخلق مستقبل أفضل للجميع. كيف يتحقق ذلك؟ سؤال جوهري وملح، بحاجةٍ إلى قراءة وتحليل سنتناوله في حديث آخر.