في خطاب الوداع الذي وجهه الرئيس الأمريكي أدوايت أيزنهاور للأمة، غداة مغادرته البيت الأبيض في بداية عام 1961، حذر الرئيس من تحالف المجمعين العسكري والصناعي، وهيمنة أصحاب رؤوس الأموال وأرباب المصانع على صنع القرار السياسي. إن ذلك، من وجهة نظره، سوف يجر إلى الحروب، كما سيؤدي إلى غياب الموازنة بين المصالح الأمريكية، وبين الالتزام بالمواثيق والمعاهدات والقوانين الدولية.
كان الرئيس الأمريكي، نفسه قد أعطى، خلال فترته الرئاسية، الضوء الأخضر لعدد من العمليات "القذرة، التي نفذت في أمريكا اللاتينية، وآسيا وأفريقيا. وكان في مقدمة تلك العمليات الإطاحة بحكومات وطنية منتخبة من شعوبها، في جواتيمالا وإيران، وتدخلات أخرى، في الدومنيك وبوليفيا والهندوراس، والكونغو. شهد بأم عينه كيف هندس الأخوان: وزير خارجيته، جان فوستر دالاس، ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية، آلان دالاس انقلاب جواتيمالا.
كشف لاحقا أن الأخوين هندسا للانقلاب، لأن الحكومة الوطنية في تلك البلاد قررت الإشراف وإدارة الإنتاج في مزارع الموز التي اشتهرت بها جواتيمالا. لقد أطيح بالرئيس لأنه تجرأ على التعرض لممتلكات الأخوين دالاس في تلك البلاد. وكشف أيضا أن انقلاب الجنرال زاهدي، في إيران المدعوم عسكريا وبشكل مباشر ومعلن من قبل الأمريكيين، الذي أطاح بحكومة الدكتور محمد مصدق، لم يكن بعيدا عن تخطيط زعامات الكارتلات النفطية.
كانت التدخلات العسكرية والاستخباراتية الفاضحة، في أمريكا الجنوبية، قد أدت إلى بروز مصطلح سياسي جديد، عرف بـ "جمهوريات الموز"، في إشارة للبلدان التي تتدخل فيها القوى الخفية، وتنفذ فيها عمليات سرية .Covert Actionsلم ينظر المشرعون والسياسيون الأمريكيون إلى تلك العمليات، وبشكل خاص تلك التي جرت في دول أمريكا اللاتينية، نظرة شك أو ارتياب، فتلك العمليات من وجهة نظرهم، تجري في حديقتهم الخلفية، وينسحب عليها تعبير المناطق الحيوية sphere of influence.
لكن الأمر لم يكن كذلك عندما تسلم الرئيس جون كنيدي دفة الحكم. آنذاك تبنى الرئيس الشاب سياسة جديدة تقوم على مساعدة شعوب العالم الثالث للتخلص من الأنظمة الديكتاتورية، وانتقد سياسة سلفه، في دعم انقلابات الجنرالات في القارات الثلاث. ونظر مستشاره لشؤون الأمن القومي، والت روستو لبيان جديد، دعاه بالبيان غير الشيوعي، الذي قال فيه إن العلاقات بين الدول ينبغي أن تقوم على أسس تكاملية، وليس على أسس الهيمنة والتبعية. وقال بسياسة المراحل، التي تصل فيها المجتمعات البشرية، بأسرها في نهاية المطاف إلى مرحلة الانطلاق. وهي أعلى مراحل التطور، بحيث تندمج في الأخير دول العلم الثالث مع العالم الحر، بعلاقات متكافئة، تقوم على الندية والمساواة.
وكانت الحقيقة الأبرز التي تزامنت مع منطلقات روستو وسياسات كنيدي، هي بروز دور جهاز التلفاز، في تشكيل وتوجيه أدمغة الناس. وكانت المعركة الانتخابية التي دارت بين ريتشارد نيكسون والرئيس كنيدي نفسه، قد أكدت بشكل حاسم فاعلية الجهاز الجديد العجيب في توجيه المعركة الانتخابية، لصالح الشاب كنيدي. وجاءت مراسم التنصيب، الباهرة والصورة الملكية للرئيس وقرينته جاكلين، وكرنفالات الفرح التي عمت المدن الأمريكية، بوصول كنيدي للحكم، لتحسم دور الصورة، في صنع القرار.
لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن. لقد صرع الرئيس في موكبه الرئاسي بمدينة دالاس، وضاع سر مصرعه حتى يومنا هذا. وقيل في أسباب مصرعه الكثير. وكان أهم ما قيل عن سبب المصرع، أن الرئيس الشاب قد تجرأ على "حقوق" الدولة الخفية… دولة تحالف المجمعان الصناعي والعسكري. وأن خروجه على قوانين اللعبة كلفه حياته.
كانت الحروب، رغم كلفها في الأرواح والممتلكات تنعش ماكنات التصنيع العسكري، وكانت مرحلة الرئيس أيزنهاور، مرحلة ازدهار لهذه الصناعات. فالحرب العالمية الثانية، لم تكد ترفع أثقالها، حين بدأت الحرب الباردة، وتفجرت الأزمة الكورية. وكانت المعارك في الهند الصينية، بين الفرنسيين والفيتناميين، قد هيأت، كما هيأت ظروف أخرى، لانزياح الاستعار التقليدي عن مناطق كثيرة من العالم. وجاءت معركة قلعة دان فيان فو، وهزيمة الفرنسيين فيها، لتضع الولايات المتحدة في الواجهة من الصراعات التي تجري من أجل حيازة مصادر الثروة في الهند الصينية.
والواقع أن بوادر التدخل الأمريكي، في ذلك الجزء من العالم، قد بدأت مع جون كنيدي نفسه، راعي فكرة نشر الديمقراطية في العالم، والنأي عن تأييد الانقلابات العسكرية. لقد وجد نفسه مجبرا، على الخضوع لضغوط المجمعين العسكري والصناعي فأرسل مجموعة من المستشارين العسكريين، لمساندة نظام فان ديام، ضد شعبه. وبمصرع كنيدي، ووصول ليندون جونسون إلى سدة الرئاسة، أصبح التدخل العسكري أكثر وضوحا، واستمر تدفق الجيش الأمريكي إلى فيتنام ليتجاوز الـ 500 ألف مقاتل، قتل منهم في المعارك أكثر من 50 ألف وجرح مئات الألوف. واستعرت الحرب في القارة الهندية لتشمل بالإضافة إلى فياتنام، لاوس وكمبوديا، ولتنتهي بفشل ذريع للسياسة الأمريكية، لكن ذلك كان في كل الأحوال، قد ضخ عشرات المليارات من الدولارات للمجمعين العسكري والصناعي، في الولايات المتحدة الأمريكية، وأسهم في إفلاس الخزينة السوفييتية، التي كانت تتنافس عقائديا مع الأمريكيين، على حيازة تلك المنطقة.
آليات السياسة الأمريكية، التي صدرناها كعنوان لهذا الحديث، لا يمكن فهمها بطريقة تقليدية، من خلال وعي دور المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية فحسب. بل لا بد من وعي الأدوار التي تضطلع بها قوى المصالح وقوى الضغط والاتحادات ومؤسسات المجتمع المدني، والأجهزة الحزبية، وخاصة قيادات الحزبين الرئيسيين: الحزب الجمهوري، والحزب الديمقراطي، والقوى الفاعلة والمتنفذة فيهما، وأيضا دور أجهزة الإعلام، وبخاصة القنوات التلفزيونية، ومؤسسات هوليود وجميعها تشكل قوى ضاغطة وفاعلة على المؤسسات الثلاث المنوط بها صناعة القرار الأمريكي.
نناقش آليات صنع السياسة الأمريكية، لأن أمامنا سؤال ملح وجوهري، طرحناه قبل عدة أسابيع، عن سياسة الرئيس الأمريكي، أوباما هل هي استمرارية أم تغيير؟. وتوقفنا عند السؤال، بطرح مجموعة من العناوين: الدورة التاريخية وعالم ما بعد أمريكا، عالم ما بعد الأزمة الاقتصادية، السياسة الأمريكية بعد عام من عهد أوباما، الاستراتيجيات الأمريكية الكبرى، استمرارية أم تغيير. هذه العناوين مجتمعة أردناها أن تكون مقدمة للإجابة على السؤال، الذي يثقل على كاهلنا ويلح في طلب الجواب، هل نحن فعلا أمام تغيير في السياسة الأمريكية الآن، أم أن ما نشهده ليس سوى استمرارية لما كان قائما من قبل؟ سؤال يبقى قائما، لتستمر المناقشة في أحاديث قادمة بإذن الله تعالى.