فيصل جلول
بعد مضي عشر سنوات على الغزو الأمريكي للعراق صار بوسعنا أن نوجز بالأرقام حجم الكوارث الناجمة عن الغزو ليس فقط في الجانب العراق وإنما أيضاً وبصورة خاصة في الجانب الأمريكي .
ملامح الكارثة الأمريكية يلخصها موقع “اغورا فوكس” في مقال افتتاحي نشر للمناسبة استناداً إلى دراسة أمريكية موثوقة جاء فيها أن واشنطن كانت قبل الغزو قادرة على ردع إيران وكوريا الشمالية ومنعهما من تطوير مشاريعهما النووية، وصارت بعد الغزو عاجزة عن ذلك . وكانت واشنطن أيضاً تحظى باجماع دولي يغطي حربها على أفغانستان وبالتالي يعينها على كسب هذه الحرب، لكن غزو العراق أدى إلى خسارتها الحربين معاً .
وأصاب الغزو عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين بالتلوث الناجم عن السموم واليورانيوم المنضب وهم عرضة للأمراض القلبية والتنفسية أكثر بما لا يقاس من مواطنيهم الذين لم يشاركوا في الغزو . وقد فقد الغزاة رسمياً نحو عشرة آلاف قتيل بين جنود نظاميين ورجال أمن تابعين للشركات الخاصة، فضلاً عن عشرات الآلاف من المصابين والمعاقين . وتقدر الدراسة الأمريكية حجم المعطوبين نفسياً وجسدياً جراء حربي العراق وأفغانستان بمليون ونصف المليون جندي ممن يحتاجون إلى معالجة طبية من أصل مليونين ونصف المليون من الجنود الذي خدموا في البلدين خلال سنوات الحرب . وتؤكد الدراسة أن تكلفة معالجة هؤلاء تصل إلى 970 مليار دولار وهي مرشحة للتصاعد الأمر الذي يهدد بانهيار ميزانية مؤسسة “قدامى المحاربين” المسؤولة عن علاجهم .
أما كلفة حرب العراق التي قدرها بوش الابن قبل الغزو بخمسين ملياراً فقد وصلت إلى 1700 مليار دولار، وأن فائدة ديون التكلفة قد تصل إلى أربعة آلاف مليار حتى العام 2053 . ما يعني أنه سيكون من الصعب على الولايات المتحدة أن تشن حرباً أخرى حتى وقت طويل، مع ما يعنيه ذلك من انحدار في موقعها الدولي وفي قدرتها على التأثير في النزاعات . وتشير الدراسة أيضاً إلى حالات الانتحار المستمرة في صفوف الجنود الأمريكيين التي تقدر بالعشرات ناهيك عن الاضطرابات النفسية التي تضرب الآلاف منهم وتؤثر سلباً في أسرهم ومحيطهم .
وإذ تؤكد ملامح الكارثة الأمريكية أن بوش الابن قد ارتكب حماقة تاريخية بحجم انحدار مرتبة بلاده العالمية فإنه بالمقابل دمر بلداً عربياً محورياً في الشرق الأوسط، وأرسى فيه سيرورة خراب دائمة، ولسنا بحاجة إلى جهد كبير للإحاطة بها فالأرقام والوقائع المتداولة تشير إلى المصائب التالية:
* أولاً: كان العراق قبل الغزو خالياً من الإرهاب وهو الآن أحد أهم مسارحه .
* ثانياً: كان الفساد في العراق محدوداً قبل الغزو جراء القمع الحاد في ظل النظام السابق، فإذا به يحتل بعد الغزو المرتبة الثامنة بين الدول الفاسدة في العالم .
* ثالثاً: دمر الغزو الأمريكي نظام الرعاية الصحية فصار العراقيون يقصدون الدول الخارجية لعلاج أنفسهم كما لوث البيئة في هذا البلد ومياه الشرب وخرب البنى التحتية التي صرف العراقيون ثروة طائلة في تشييدها، وخرب البيئة الاجتماعية عبر تهجير أكثر من أربعة ملايين عراقي داخل بلدهم وخارجه، ناهيك عن قتل وجرح أكثر من مليون مدني وتشريد أسرهم، إضافة إلى تخريب الدولة والجيش والأجهزة الأمنية، الأمر الذي أدى إلى هجرة النخب العلمية ويقدر هؤلاء بعشرات الآلاف من الأطباء والمهندسين والكوادر العلمية في مختلف المجالات والتي كلف تكوينها مليارات الدولارات .
* رابعاً: تسبب الغزو في تدمير الوجود المسيحي في هذا البلد والممتد منذ ميلاد السيد المسيح .
خامساً: حمل تدمير الدولة والأجهزة الأمنية العراقيين على طلب الحماية من طوائفهم وأعراقهم وعشائرهم، وبالتالي إعادة تنظيم أنفسهم كطوائف وأعراق، بدلاً من المواطنة، وقد جاء نظام الأقاليم ليرسخ هذا الواقع ولينظم المواجهات والمجابهات الدورية بين العراقيين الذين صاروا يحتاجون إلى التحكيم الخارجي الدائم في خلافاتهم من طرف جيرانهم الأتراك والإيرانيين، فضلاً عن السفارة الأمريكية في بغداد التي تعد الأكبر في العالم . ما يعني أن إعادة النظر في هذا النظام أو إطاحته يترتب عليها إلحاق الضرر بالجماعات المستفيدة منه أي معظم الطبقة السياسية العراقية .
والأخطر أن ضرب العراق أدى إلى تحسين البيئة الأمنية “الإسرائيلية” ف”تل أبيب” تخلصت بفعل الغزو الأمريكي من بلد شارك في كل الحروب ضدها وكان من صناع وممولي الثورة الفلسطينية البارزين .
يفصح ما سبق عن عشر سنوات طبعت بقوة مدخل الألفية الثالثة، وقلبت أوضاع الشرق الأوسط رأساً على عقب، وانطلق منها تفتيت العالم العربي المستمر، علماً بأن ما يسمى ب “تفتيت المفتت” بدأ من العراق وامتد إلى السودان وهو مطروح كاحتمال قوي في سوريا وليبيا واليمن ولبنان . . إلخ .
بخلاف معظم حروب التاريخ المظفرة، فإن حرب العراق ألحقت أذى قاتلاً بالمنتصر والمهزوم معاً، فالغازي الأمريكي مصاب اليوم ب”فيروس” بغداد العصي على الشفاء المرشح للانتشار بقوة في كافة خلايا الجسد الأمريكي . نعم في بغداد لم يطلق جورج بوش الابن النار على العراقيين وحدهم، فقد أطلقها هذا الأحمق على بلده أيضاً فكان الانتقام من صدام حسين هو الأكثر تكلفة في التاريخ حتى وقتنا هذا .