لم تعرف الأمة العربية في تاريخها الحديث قضية مست المصير القومي العربي، وارتبطت به صعوداً وهبوطاً، كالقضية الفلسطينية. فهي القضية التي حظيت ولا تزال بإجماع شعبي عربي غير محدود. وإذا كانت قضية العراق وما جرى له ويجري فيه بعد الغزو الأمريكي تستقطب اليوم اهتمام الجماهير العربية، وتثير قلقها وخوفها على مصير العروبة، فإن ما حدث للعراق مرتبط بموقفه من فلسطين وقضيتها، ومن المشروع الصهيوني الذي يقوم على أرضها. بل إن كل ما يجري في المنطقة العربية من أحداث وصراعات وأطماع استعمارية مرتبط أيضاً بما جرى لفلسطين، وما يحدث فيها.
لقد احتل الوطن العربي على مدى التاريخ مكان الصدارة في مخططات الاستعمار، ومركزا لصراع الإمبرياليات الذي رأت فيه منطلقاً لطموحات الهيمنة لدى كل منها نظراً لأنه شكل عبر التاريخ الموقع الاستراتيجي الأهم، وامتلك المخزون الرئيسي للطاقة الذي يعتبر شريان الحياة والنمو والتطور للدول الصناعية الكبرى، ولكل شعوب العالم. ومن يتحكم في هذه الطاقة يتحكم في العالم بأسره. كما ارتبطت هذه المكانة الإستراتيجية، والإمكانيات الاقتصادية بتراث تاريخي عريق، وبرسالة حضارية عربية إسلامية إنسانية كانت هي المنافس الأقوى لتاريخ الغرب وحضارته. مما عزز من مكانة هذا الوطن وجعله مطمعاً للغزاة.
وقد شكلت فلسطين واسطة العقد لهذا الوطن الكبير من خلال بعدي المكان والزمان. فهي المفصل الواصل بين مشرق الوطن العربي ومغربه، وبالتالي بين شرق العالم وغربه من خلال موقع الوطن العربي الحاكم للبحر الأبيض المتوسط، الشريان الذي يربط غرب العالم بمشرقه. أما بعد الزمان فيتمثل في المكانة التي احتلتها فلسطين منذ القدم ضمن معادلة الأمن القومي العربي. هذا بالإضافة إلى البعد الروحي الذي اكتسبته من خلال وجود بيت المقدس فيها، مما جعلها جزء راسخاً في وجدان وضمير المواطن العربي، وبالضمير البشري عموماً. فهي مهبط الرسالات، ومسرى الأنبياء، وبوابة الأرض إلى السماء. وقد وصف الله أهلها بالمرابطين إلى يوم الدين ولصمودهم ودفاعهم عن أخطر ثغرة في الجسم العربي والإسلامي. وقد كان احتلال القدس وتحريرها من المحتل هو عنوان الهزيمة أو النصر بالنسبة للأمة العربية على مر العصور.
ونظراً لهذه المكانة التاريخية والجغرافية، والقيمة المعنوية والروحية التي مثلتها فلسطين، فقد أصبحت أيضاً في تاريخنا العربي المعاصر المعيار الحقيقي لوطنية وقومية أي نظام أو حزب عربي، حسب موقفه منها ومن تحريرها. بل إن وحدة الموقف من فلسطين والعمل على تحريرها شكلت عنصراً جامعاً لوحدة النضال العربي كطريق نحو تحقيق الوحدة العربية. ولما كانت قضية التحرير تتطلب حشد وتوحيد طاقات الأمة، وتطوير قدراتها وبناء قوتها الذاتية، فإن هذه العوامل هي عناصر تحقيق الوحدة، وانطلاق المشروع النهضوي القومي العربي. وبالتالي فإن مقومات تحرير فلسطين هي مقومات تحرير الأرض العربية من الوجود الاستعماري ونفوذه، وتحرير ثروات الأمة، وامتلاكها، وتحرير للإنسان العربي، وتحقيق سيادة الأمة الفعلية على وطنها. وفي ذلك بناء تلقائي للوحدة العربية.
ومن هنا، فإن هذه المفاهيم التي تعنيها قضية فلسطين وتحريرها، جعلت من قضية فلسطين محور الارتكاز في الصراع بين القوى الاستعمارية والإمبريالية الطامعة في الهيمنة على المنطقة، وبين الشعب العربي الطامح في التحرر والاستقلال، والمتطلع نحو الوحدة القومية.
وقد وعى الاستعمار هذه العلاقة الجدلية بين فلسطين وأمتها العربية عبر محاولات القوى الغربية السيطرة على الوطن العربي. كما وعى أن توفير الاستقرار والديمومة لسيطرته ونفوذه لا يمكن تحقيقه من خلال الغزو العسكري الخارجي فقط، بل لابد له من استخدام عوامل أخرى توفر له استمرار النفوذ. كإقامة قواعد ثابتة له ذات بعد استيطاني إحلالي من جهة، مثل إقامة المشروع الصهيوني الاغتصابي في فلسطين، والتلاعب في البنية الداخلية العربية من جهة أخرى، من خلال تقسيم الوطن العربي إلى كيانات ودويلات صغيرة ضعيفة تسهل هيمنته عليها، عبر تعزيز النزعة القطرية والقبلية لديها، والتحكم في أنظمتها وحكامها، وتعزيز الصراعات بينها كأنظمة، وبينها وبين جماهيرها. وإذكاء النعرات الطائفية والمذهبية لقتل الروح القومية.
وقد رأت القوى الاستعمارية في المشكلة اليهودية، والحركة الصهيونية أداة رئيسية لمشروعها في غزوها الجديد للوطن العربي، وتحقيق أهدافها في السيطرة عليه، وعلى ثرواته، وتجزئته، حيث التقت الأهداف الاستعمارية والصهيونية على استهداف فلسطين كمنطلق لتحقيق أهدافها المشتركة. ومن هنا بدأ التخطيط مبكراً للتأسيس لهذا المشروع المشترك. إذ نلاحظ أن المرحلة الأولى للمشروع الإمبريالي الصهيوني بدأت قبل حوالي قرن من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال السويسرية عام 1897، والذي وضع آلية قيام الكيان الصهيوني في فلسطين. إذ وجه نابليون بونابرت رسالة إلى يهود العالم عام 1799 دعاهم فيها للعودة إلى ما يسمى أرض الميعاد. وبذلك انتقلت فكرة العودة من بُعدها الديني الخرافي إلى بؤرة الفكر الاستعماري الغربي، وأصبحت جزءً من الصراعات الاستعمارية على الوطن العربي.
وهذا ما أكدته وثيقة كامبل بانرمان رئيس الوزراء البريطاني التي صدرت عن مؤتمر دولي عقده بانرمان بين عامي 1905، 1907 شارك فيه مفكرون وسياسيون وباحثون من أهم الدول الاستعمارية (بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال) لبحث المخاطر التي تهدد الدول الاستعمارية، ووضع الخطط التي تعرقل تطور البلدان المقاومة للاستعمار. وقد استنتج المؤتمر أن أخطر المناطق هي الوطن العربي الذي تمتد أراضيه بين شرق البحر الأبيض المتوسط وجنوبه، كون هذا البحر هو همزة الوصل بين الغرب والشرق، وحوضه مهد الأديان والحضارات، ويعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية، شعب واحد تتوافر له وحدة التاريخ واللغة والدين، وكل مقومات التجمع والترابط، هذا فضلاً عن نزعاته الثورية، وثرواته الطبيعية.
وأعرب المؤتمر عن تخوفه من وضع هذه المنطقة إذا توحدت فعلاً آمال شعبها وأهدافه، وإذا انتشر التعليم، وعممت الثقافة في أوساط شعبه، وإذا دخلت إليه الوسائل الفنية الحديثة، وإذا تحررت المنطقة واستُغلت ثرواتها الطبيعية من قبل أهلها. ورأى المؤتمر أنه إذا تحققت هذه الخطوات في المنطقة العربية، فإن ضربة قاضية ستحل بالإمبراطوريات الاستعمارية. ولذلك جاءَت قرارات المؤتمر التي حملتها وثيقة كامبل بانرمان مركزة على ضرورة تحقيق الدول الاستعمارية هدفين في المنطقة العربية.
أولاً ـ على الدول الغربية، ذات المصالح المشتركة، أن تعمل على استمرار تجزئة هذه المنطقة وتأخرها، وإبقاء شعبها على ما هو عليه من تفكك وتأخر وجهل.
وثانيا ـ ضرورة العمل على فصل الجزء الإفريقي في هذه المنطقة عن الجزء الآسيوي من خلال إقامة حاجز بشري، قوي وغريب، يحتل الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم القديم عبر البحر الأبيض المتوسط، بحيث تشكل هذه المنطقة، وعلى مقربة من قناة السويس، قوة صديقة للاستعمار، وعدوة لسكان المنطقة.
وقد رأى الغرب الاستعماري أنه بفكرته هذه يتخلص من جهة من المسألة اليهودية بأبعادها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. ومن جهة أخرى يجعل من الحركة الصهيونية جزء من مشروعه للسيطرة على الوطن العربي. ويمكن هنا اعتبار ما سمي بالاضطهاد الأوروبي لليهود عملية سياسية مفتعلة لدفعهم للهجرة إلى فلسطين لإنشاء كيانهم العنصري كقاعدة متقدمة للإمبريالية الغربية في قلب الوطن العربي.
ومنذ البداية ارتبطت عملية البدء في إنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين بعملية تفتيت الوطن العربي. إذ أن وعد بلفور الذي أطلقه وزير الخارجية البريطاني في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1917 ما كان له أن يطلق أو ينفذ إلا في حالة ضعف أو تقسيم الوطن العربي. ولهذا جاء وعد بلفور بعد مؤتمر ومعاهدة سايكس بيكو عام 1916 مع نهايات الحرب العالمية الأولى. حيث جرت تجزئة الوطن العربي إلى كيانات سياسية صغيرة لتفتيت جسم الأمة والشعب العربي، وخلق حكومات وأنظمة مرتبطة بالاستعمار الذي أنشأها، وغير قادرة على مواجهة هيمنته على المنطقة أو منعه من إقامة قاعدته الاستعمارية الصهيونية في فلسطين. وقد وضع المشروع التقسيمي فلسطين تحت الانتداب البريطاني لتوفير شروط إقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين كما نص وعد بلفور، وذلك بتسهيل عمليات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومنحهم جزءً من أراضيها الحكومية للاستيطان، وقمع ثورات العرب الفلسطينية التي تصدت للاحتلال البريطاني من جهة، وعصابات المستوطنين الصهاينة من جهة أخرى.
وقد لعبت أنظمة التجزئة العربية التي كانت أشبه بمحميات بريطانية وأمراؤها وشيوخها وملوكها الساعون للرضى البريطاني، دوراً مساوما على فلسطين من أجل حصولهم على حصص ومواقع ومناصب في الأرض العربية المجزأة (خلال عمليات التقسيم وإنشاء الكيانات). كما لعبت دوراً مساعداً للانتداب البريطاني على تثبيت أقدامه في فلسطين، وبالتالي تثبيت أقدام الاستيطان الصهيوني في فلسطين، حين تواطأت مع الاحتلال البريطاني على إسكات ثورات الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال البريطاني والهجرة اليهودية (رسالة الملوك العرب للشعب الفلسطيني وقيادته لوقف الإضراب والثورة عام 1936 بناء على طلب من الحكومة البريطانية ووعود بريطانية كاذبة بوقف الهجرة اليهودية). وحين لم تقدم أي دعم مادي أو عسكري أو حتى معنوي لنضال الشعب الفلسطيني لتحرير وطنه في تلك الفترة.
وبعد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 بتاريخ 29/11/1947 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين، وإعطاء الدولة اليهودية أكثر من 52% من مساحة فلسطين رغم أن اليهود لم يكونوا في ذلك الوقت يمتلكون أكثر من 5% من أرض فلسطين، ورفض الشعب الفلسطيني لهذا القرار، واشتعال ثورته لتحرير أرضه، رفضت الحكومات العربية السبع نظرياً قرار التقسيم. ولكنها لم تقدم عملياً أي دعم للثورة الفلسطينية آنذاك، ودفعت بجيوشها الصغيرة والضعيفة وغير المؤهلة للحرب، وذات الإمكانيات التسليحية المحدودة لمواجهة المنظمات الصهيونية المدربة والمسلحة جيداً، والأكثر عدداً من كل الجيوش العربية. والأنكى من ذلك أن الجيوش العربية وضعت تحت القيادة الأردنية التي كان يقود جيشها ضابط بريطاني يأتمر بالأوامر البريطانية، وقامت هذه الجيوش أو بعضها، بمصادرة سلاح الثوار الفلسطينيين وإلغاء دورهم، بحجة أن معركة التحرير أصبحت مسؤولية عربية تقوم بها الجيوش. ونتيجة لهذه التطورات كانت نتيجة المعركة محسومة لصالح قوات الاحتلال الصهيوني، وهزمت الجيوش العربية، وانسحبت، وقامت دولة إسرائيل على أكثر من 78% من أرض فلسطين. ولم يقف دور الأنظمة العربية عند حدود التقصير، بل كان بعضها متواطئاً مع الكيان الصهيوني الجديد على تقاسم الأراضي الفلسطينية من أجل توسيع رقعة أراضي بعض هذه النظم، ولتكون دولتها مركز استيعاب للشعب الفلسطيني الذي طرد من أرضه، ولتشكل وطناً بديلاً للفلسطينيين يحول دون عودتهم إلى وطنهم وأرضهم، وليتيح لدولة إسرائيل الاستقرار في الأرض التي احتلتها. وربما كان هذا المخطط الذي جرى تنفيذه عام 1948 جزء من المخطط الكبير الذي رسمت معالمه في معاهدة سايكس بيكو، وتم فيها تقسيم الوطن العربي إلى دويلات جرى رسم حدودها وتعيين حكامها في قرار الانتداب عام 1922.
بعض الأنظمة العربية المحكومة استعمارياً، سواءٌ في مشرق الوطن العربي أو مغربه، ذهبت في دورها التآمري لتعزيز الكيان الصهيوني في فلسطين إلى أبعد من ذلك حين تواطأت مع القوى الاستعمارية الغربية الحاكمة، ومع الحركة الصهيونية، على تهجير يهود البلدان العربية إلى دولة الكيان الصهيوني في فلسطين (الكتل اليهودية الأكبر جاءَت من العراق والمغرب واليمن وإيران). بحيث شكلت نسبة اليهود الشرقيين (السفارديم) في دولة إسرائيل في سنوات الخمسينات والستينات من القرن الماضي حوالي 63% من السكان.
وهكذا انقلب دور النظام الرسمي القطري العربي المحكوم استعمارياً من عامل مساعد لتحرير الأرض العربية الفلسطينية، إلى عامل مساعد لإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين، وتثبيت وجوده.
ومن المؤسي والمؤسف، أن دور النظام الرسمي العربي الحالي ـ بعد رحيل القائدين الشهيدين الخالدين، جمال عبد الناصر، وصدام حسين، صاحبي المشروع النهضوي الوحدوي العربي ـ لا يختلف عن دور الأنظمة العربية في مرحلة النكبة، بل ربما هو الآن أكثر خطراً على فلسطين والأمة العربية، نتيجة ضعفه وانقسامه وخضوعه للسياسات الأمريكية، وجبنه في مواجهة دولة الاحتلال الصهيوني.
وإذا استمر الواقع العربي على هذه الحال، فإن الخطر لن يكون على أرض فلسطين وحدها، وعلى حقوق شعبها، وفي مقدمتها حق اللاجئين في العودة، بل سيمتد ليطال الأمة العربية وبلدانها بأسرها. وقد بدأت مؤشرات هذا الخطر تتضح من خلال ما جرى للعراق، وما يجري في الصومال، وما هو متوقع في اليمن والسودان، وكذلك في منطقة الخليج العربي نتيجة وجود مخاطر إقليمية أخرى تستغل حالة الضعف العربي، تتمثل في انتشار النفوذ الإيراني، وتزايد طموحاته في المنطقة.
ومن أجل إنقاذ فلسطين، بما فيها القدس، وحقوق اللاجئين الفلسطينيين، من الضياع لابد من إعادة النظر في السياسات العربية الراهنة، من خلال الإعداد لمشروع عربي يقوم على وقف الانصياع للسياسات الأمريكية، وتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وهذا لن يتم إلا من خلال بناء القوة العربية العسكرية والاقتصادية والثقافية، ووحدة الموقف العربي.
هذا هو الطريق الأوحد والأمثل لتحرير الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، وحماية حق العودة والقدس من الضياع، ووقف حالة الانقسام والانهيار التي تتعرض لها الأمة العربية. وحتى يتم ذلك لابد من قيام الحركة الشعبية العربية وقواها السياسية، وأحزابها، ومنظماتها الجماهيرية بتحرك جماهيري يفرض إرادته على الأنظمة الرسمية العربية.