سبع سنوات عجاف مرت تحمل في طياتها معاني الأسى والحزن والحسرة والحرقة، على واقع مؤلم قاس لطالما شاطرتنا فيه المآسي والأوجاع، وقاسمتنا فيه الغربة والتشرذم واللئواء، حتى صرنا بين الأمواج المتلاطمة في مهب الريح والهواء، وتخلى فيها عنا القريب قبل البعيد، وتُركنا نواجه المصير المجهول لوحدنا رغم كثرة الطعنات وتكالب الأعداء.
ولسان حالنا يقول:
شعوب الأرض في دعة وأمن *** وهذا الشعب تنهشه القروح
تناوشه الطغاة فأين يمضي *** وهل بعد النزوح غدا نزوح
نكاد لا نبالغ إذا قلنا أن أعظم فاجعة فُجعنا بها طيلة تواجدنا في العراق؛ يوم أن سقطت تلك المدينة العريقة، عاصمة الخلافة العباسية، مدينة الرشيد ومدينة العلم والعلماء والصالحين والأتقياء، واحتلها الغزاة المعتدين، وما ذلك إلا لضعف الأمتين العربية والإسلامية، ووجود الخونة والعملاء، الذين باعوا ذممهم رخيصة من أجل حياة مهينة خسيسة لا تعدل عند الله جناح بعوضة بأعلى مقاماتها.
وهنا نتذكر ما قاله آخر ملوك الأندلس أبو عبد الله محمد الصغير عندما وقع معاهدة الاستسلام وسقوط آخر معاقل المسلمين بين ربوع غرناطة، حتى أصبح يبكي وينتحب فقالت له أمه عائشة الحرة: أجل فلتبكي كالنساء ملكا لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال، وكانت الظروف مقاربة لأحوالنا من تفرق الأمة الإسلامية وتنازع دويلاتها حتى انقضت عليهم أمة الكفر واستباحت بيضتهم.
عندما استيقظت هذا الصباح ( التاسع من شهر أبريل/ نيسان 2010 ) مباشرة رجعت في ذاكرتي سبع سنوات إلى الوراء متأملا ومتذكرا مأساة لم تنته فصولها بعد، وحقبة سُطّرت بجراحات الثكالى ودماء الضحايا، لا زالت تستثير خلجات نفوسنا، ولا زلنا نصارع ونكابد صعوبات الطريق ونحن وحدنا من يدفع ضريبة هذا التهجير المقيت الذي فُرض علينا قسرا وشارك فيه العدو والصديق!!
في بادئ الأمر لم نستوعب حجم الفاجعة التي نحن الحلقة الأضعف فيها، وما هي إلا أيام حتى أصبحت حقيقة نراها عيانا ونتلمس آثارها المدمرة، وتأقلم الكثير مع هذا الحدث وكأن شيئا لم يكن، وانعكس علينا انعكاسا كبيرا قاسيا بل تعدى لأبعد من ذلك، حتى صرنا مثالا للمعاناة والمخيمات والتشريد والتهجير والانتهاكات.
فعلى ثرى بغداد جرح مؤلم *** ما زال في أيامنا يتجدد
وإذا في غزة والدخان مكثف *** والكون في داج الظلام ملبد
جاء الصليب بعدّه وعتاده *** وبكل قوات الدمار يزود
بالأمس أشرع بأفغان يدا *** ومخالب للجارحات تعدد
تجري دماء الفلسطينيين كأنها *** نهر يشق مساره لا يركد
فمهما ادعى المحتل من ادعاءات واهية وشعارات براقة، فلا يأت بخير إطلاقا، وهذه قضية مسلّم بها تعرفها الشعوب التي رزحت تحت الاحتلال قديما وحديثا، فكيف سيكون حال ثلة قليلة وأقلية ضعيفة لا حول لها ولا قوة، لا منافح عنها أو مدافع عن حقوقها ولا مطالب بما ينصفها أو معين لها على نوائب الدنيا إلا أن الله معهم لأنهم مظلومين.
إن سبع سنوات من الظلم والاضطهاد تعرضنا في ثناياها لأبشع ممارسات القتل والتنكيل والتعذيب والاختطاف والتهجير والظلم والتضييق، من قبل أناس تستروا بالإسلام وتقربوا بذبحنا لمعبوداتهم، وأظهروا حقدهم طيلة أربعة عشر قرنا من الزمان، فما تركوا وسلة ولا طريقة إلا سلكوها حتى فاقوا محاكم التفتيش والبربر والنازية!!
إن أكثر من ثلثي الفلسطينيين في العراق تهجروا وذاقوا الأمرين نتيجة تلك الممارسات، حيث كنا قرابة ( 25000 فلسطيني ) عام 2003 ، والآن لا يتجاوز العدد الموجود فعلا ( 7000 فلسطيني ) فلمصلحة من كل ذلك؟! ولخدمة مَن ؟ وهل هذا طريق عودتنا لأرضنا الحبيبة فلسطين؟! كما يدعون أن طريقها يمر بكربلاء!! أم أن ما حصل هو خدمة للمحتل واليهود ومن على شاكلتهم؟
عماه أفترش التراب وخيمتي *** سُحُبٌ فهل يحلو بهذا مرقد
عماه كان أبي يدللني وقد *** أضحى هناك بقبره يتوسد
عماه ما للمسلمين لأمرنا *** وكأنهم عن كل حسٍ جُرّدوا
أضحى وجودنا غرابة وخيانة *** والكفر والعمالة فعلا يُحمد
إن التاريخ لن ينسى وسيسطر تلكم الجراحات والجرائم بحقنا، وستبقى وصمة عار في جبين أولئك الذين يدعون نصرة قضيتنا، فهم بذلك شابهوا اليهود الذين يدعون أنهم دعاة سلام وفِعالهم فعال أهل الحرب، فتشابهت التقيتان وتطابقت الدعوتان، ولحد الآن عندما يُذكر سقوط بغداد بيد التتر سنة 656هـ نتذكر ابن العلقمي ونصير الدين الطوسي، والآن التاريخ يعيد نفسه فعندما نذكر آهات وآلام " فلسطينيو العراق " في القرن الحادي والعشرين فإننا نتذكر إجراج الميليشيات الصفوية الطائفية التي عاثت في أرض السلام فسادا وتدميرا.
إن تلك الحقائق راسخة ثابتة لابد من إظهارها وترويجها حتى لا تعاد الكرة ولا يسقط في شباكهم أبرياء آخرون، ومهما حاول المنتفعون أو المضللون أو المنهزمون أو المشككون والمدافعون عنهم واللاهثون ورائهم تغييب هذه الحقائق وتكميم الأفواه فإن الغربال لا يحجب نور الشمس كما أن الذي لا يرى منه أعمى!!
لأول وهلة وأدنى تأمل وببساطة نقول بأن المستفيد مما حصل لنا هم أعداء قضية فلسطين وأعداء الإسلام والعروبة، مهما ادعوا من شعارات وطبلوا وجعجعوا لأنه من آثارهم تعرفونهم، ومخيماتنا الصحراوية لا زالت شاخصة في أرض الوليد غرب العراق وصحراء الهول شمال سوريا، ولولا تلك الممارسات لما حصلت تلك المخيمات فتأملوا!!
أحبابنا إني أغالب حسرة *** مشبوبة وعلى الأسى أتجلد
نظرات أعينكم تعذبني فلا *** عيشي يطيب ولا جفوني ترقد
تجري دماء الأبرياء على الثرى *** نهرا وعالمنا المخدر يشهد
أواه من نار أحس بحرها *** لما يراق دم ويهدم مسجد
إن ثَمة قضية هامة لابد من التطرق لها وأحوالنا لا تسر صديقا ولا عدوا جراء ما حصل من آثار مدمرة، فبعد سبع سنوات من سبب بلاءنا وشتاتنا أين وصلنا وماذا ينتظرنا ؟! وما هو واقعنا ومعاناتنا الجديدة ؟! وهل انتهت تلك المآسي بمجرد خلاصنا من ميليشيات القتل والإجرام؟! وهل نعيش الآن في وضع نحسد عليه وفي مأمن من الفتن والمحن القادمة ؟!
في الحقيقة تلك أسئلة واقعية نحتاج التأمل بها بل والتأني قبل أن تغرق السفينة ونسلم عقولنا لغيرنا ونسير وراء شعارات ورايات عمية وسراب يحسبه الظمآن ماءا، فثلاثة آلاف مصيرهم لحد هذه اللحظة مجهول في جزيرة قبرص، ومثلهم في مملكة السويد لديهم جوانب أخرى من المعاناة بعد أن أصبحوا مواطنين سويديين وينتظر عدد منهم الحصول على الإقامة فيها.
إن مجتمعات مهما بلغت في إنصاف الناس ببعض الجوانب المادية، لكن طالما هي مجتمعات لا دينية وتنعدم فيها قيمنا الإسلامية والمعتقدات الصافية فسوف يعاني منها المسلم مخاطر كثيرة بدأت تظهر بوادرها في عدد من الدول، حتى تواردت إلى مسامعنا انسياق عدد من العوائل وتنصرهم وعوائل أخرى يشترط عليها حضور الكنيسة لاستمرار مخصصاتهم، وأخرى يشترط عليها لقبولها في أميركا التوقيع والإقرار بإلزامية التجنيد في الجيش الأمريكي، وهذا عاقبته كما شاهدنا في العراق الجنود الأمريكان من أصول لبنانية ومصرية وتونسية بل وعراقية وفلسطينية!!
إن تفسخ الأواصر الأسرية وتفكك الصلات الإجتماعية هذا يكفي لأن يحكم على ما تعرضنا به بالزلزال المدمر الذي يهلك الحرب واالنسل، لأنه شيئا فشيئا سنفقد أصولنا ونسبنا وترابطنا، بل حتى يكلمني أحد الأقرباء في إحدى الدول الأوربية قائلا: لي قرابة تسعة شهور ما التقيت بأقربائي في تلك الدولة، نتيجة لتفرقهم أيضا في البلد الواحد وارتفاع كلفة النقل فيها.
يقول نبينا عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح( ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه و ينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته و ما من أحد ينصر مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه و ينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته ) صحيح الجامع.
هذا حال من يقف موقف المتفرج إزاء ما حصل لنا وهو قادر على النصرة، فكيف بحال من يدافع عن المجرم وينافح عنه، ووالله لقد تألمت كثيرا وكاد عقلي يطيش وقلبي يتفطر عندما سمعت بأن بعض الأشخاص أو الجهات من فلسطينيي العراق يجاملون أولئك الذين شاركوا بسفك دمائنا بل ويجالسونهم ويدافعون عنهم وقد يدعى بعضهم ويقدم ويعطى الصدارة في المجلس، لكن كما قال تعالى ( ومن يهن الله فما له من مكرم ) ولله در الشاعر القائل:
متى يبلغ البنيان تمامه *** إذا كنت تبني وغيرك يهدم
والله لن تنفعكم أموالكم ولا مجاملاتكم ولا زالت دماء شهدائنا – بإذن الله – لم تجف وجرحانا ومرضانا ومن عانى من تلك الفئة الآثمة كل ذلك شاخص وظاهر للعيان، أم أن المصالح وحب الظهور والتملق قد أعمى أبصار الكثير منا ونسي تلك الدماء والعوائل المهجرة، إلا إذا كانوا يعتقدون بأن سبب تهجيرنا أناس جاءوا من كوكب آخر، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور.
إن تشتتنا لأكثر من ثلاثين دولة بعد أن كنا مجتمعا واحدا متماسكا متكاتفا، لأخطر ما في القضية وأسوأ ما في الأمر، ولا زالت الجراح تنزف والمآسي تتكرر وهويتنا تذوب شيئا فشيئا بسبب الفتن والأمواج الكبيرة التي لا تقوى عليها قوانا الضعيفة وما تعرضنا له من نكبات ونكسات توهننا وتزيد من فرقتنا.
التاريخ سيسجل كل تلك المواقف، فقد سطر لنا من ذي قبل صور مشرقة ونماذج رائعة لرجال ثبتوا وصمدوا في الملمات، وبالمقابل سجل التاريخ أيضا مواقف مخزية ومخجلة لأشخاص باعوا ذممهم وتنصلوا من مسؤولياتهم وانفتنوا بالمناصب والوجاهات وغيرها، فمع أي الفريقين ستسجل ولأي طائفة ستصنف فاليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل فانتبه!!
نحن كأقلية تهجرنا من العراق في ظل ممارسات طائفية إجرامية انتقامية، ينبغي أن نستشعر هذه الحقيقة وأننا ما انتقلنا لدول الشتات الجديد للنزهة أو الفسحة، بل لدينا قضية أم وهي أرضنا المغتصبة فلسطين، ولدينا حقوق في العراق ضاعت وذهبت أدراج الرياح بلحظات، فمن يطالب بها، إذا كنا غير مبالين وكأن الأمر لا يعنينا، فوالله لن ترجع أرضنا ولا نسترد حقوقنا بالمهرجانات والدبكات والمجاملات والتنازل عن مبادئنا ومعتقداتنا والمداهنة مع أعداء الله، فنحن أمة مقهورة مستضعفة ولا يأتي عزنا ونصرنا بمثل تلك الأشياء بل ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ).
لكن أخيرا لابد من الصبر والثبات وأن هذا كله ابتلاء من الله عز وجل وما أصابنا لم يكن ليخطئنا، ويجب أن لا نجزع ولا نضعف ولا ننساق لما يضعف قضيتنا فما نزل بلاء إلا بذنب ولا يرفع إلا بتوبة وحسن التجاء إلى الله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام (إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها و تستوعب رزقها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب و لا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته ). صحيح الجامع.
ولرب نازلة يضيق لها الفتى *** ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكنت أظنها لا تفرج
نسأل الله تعالى أنه يعز الإسلام والمسلمين، وأن يخذل الشرك والكافرين وأن يعيذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن لا يفتننا بديننا وأن لا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا.