ريم خليفة
ودعت المنطقة العربية العام 2014 بمزيدٍ من التقلبات التي صاحبت المناخ السياسي. ولعل أهم هذه التقلبات، الحرب على التنظيمات الإرهابية مثل «داعش»، وصولاً إلى توسع دائرة الانقسام الطائفي. وكلاهما جاء نتيجة ما أفرزته السياسات الخاطئة في المنطقة لمقاومة أي توجه للتغيير والتقدم، وذلك فيما يتعلق بالمجتمع والدولة.
فبعد مرور أربع سنوات على الربيع العربي، فإنه بلاشك نرى تذبذب مفهوم المواطنة في المجتمعات العربية التي لم تعرف يوماً مفهوماً صحيحاً لذلك يؤسّس لمواطنة حقيقية تحظى بكامل حقوقها السياسية والمدنية، وذلك بنفس القدر الذي تتطلع إليه شعوب المنطقة.
ولكن بدلاً من ذلك، خرج علينا وفي هذه المرحلة مشروع التمايزات الطائفية والعشائرية، والعمل على إحيائها من خلال الإستثمار الرمزي والسياسي والاجتماعي لدرجة المبالغة، بل وتحويلها إلى أدوات لخلق الصراع الاجتماعي والسياسي. وهو ما يعني خلق دول وحكومات داخل الدولة الواحدة من خلال عصبيات تنافس العصبية القانونية العامة التي تجسد فيها شكل وصورة الدولة لكن بدون صورة حقيقية للمواطنة.
وقد تم استهداف المواطنة بشكل كبير من خلال مقاومة التغيير السياسي في مراحل مختلفة بالبلدان العربية. وقد حدث ذلك عبر تغييب مبادئ الحياة الكريمة للجميع، والحرية لكل فرد، والمساواة الفعلية أمام القانون والمشاركة العملية في القرار. وهو ما جعل الدولة العربية الحديثة في مفهوم البلدان العربية لاسيما الخليجية، تتحوّل من دول ترعى الرفاهية والاستهلاك، إلى دول تؤسس على العصبية الفردية أو النزعة الطائفية لمواجهة مكوّنات المجتمع الذي يختلف معها. فتبحث عن بدائل عنها، كالضبط والتحكم في مراقبة الناس عبر التقنية العصرية، أو تبنّي أساليب الدولة البوليسية التي تفرض القمع والملاحقات القضائية والزج في السجون. وهي أساليب كانت عملت بها دول أميركا اللاتينية في أواخر القرن الماضي كتحالف إقليمي يناهض مشروع المواطنة والعدالة القائم على التغيير والتطوير لأنظمة سياسية لم تعترف بأهمية المواطنة وبتحسين أوضاع مجتمعاتها. أما اليوم فهي تعيش أفضل حالاً ممّا كانت عليه في حقب دفعت ببث الرعب في نفوس المواطنين لسنوات قاهرة من زمن طويل. وكان هذا الأمر سبباً وجيهاً في دفع مجتمعات أميركا اللاتينية إلى بناء دولة تحرّرت من مفهوم القبضة الأمنية لإحلال الأمن والاستقرار ودولة المواطنة التي تكفل قيام نظام سياسي عادل مثل البرازيل والأرجنيتن.
ودولة المواطنة ليست مجرد شعارات للاستهلاك السياسي، وإنّما هي مفهوم يتطلب وجوده والإقرار به عبر الالتزام بالمؤسسات والتوظيف لآليات وأدوات تضمن تطبيقها على أرض الواقع.
من هنا لابد من الإشارة إلى أن نمو العصبيات الطائفية وتفاقمها بعد أربع سنوات من الربيع العربي، كشف مدى حجم تنامي عمليات الإقصاء والاستبعاد التي مارستها السلطات في بلدان المنطقة، بحيث حوّلت الدولة إلى مؤسسةٍ لخدمة المصالح الخاصة وتعظيمها في كل لحظة ومناسبة. بالإضافة إلى بناء شعور الولاء مختلف تماماً عن مفهوم المواطنة الحقيقية التي لا ترى في العقيدة والطائفة والعرق ضرورةً طالما الجميع متساوياً أمام القانون.
ولو قارنا الوضع بما هو معاش في الساحة العربية والمحلية في بلد مثل البحرين، فإن مفهوم المواطنة لا يكتمل إلا في دولة الإنسان التي تمارس الحياد الإيجابي تجاه قناعات وآراء وأفكار مواطنيها، بحيث لا تمارس الإقصاء والتهميش والتمييز تجاه أي فرد بسبب معتقداته أو أصوله القومية والعرقية، بل تشدّد على احترام التنوع والتعدد، وليس نفيه. بمعنى آخر: تعددية تقوم على قاعدة المساواة، والسعي بوسائل قانونية وسلمية للإفادة من هذا التنوع والتعدد في تمتين قاعدة الوحدة الوطنية، بعيداً عن التمايزات الطائفية والقبيلة والعرقية.