اسماعيل ابو البندورة
ما تفتقده الأمة العربية في المرحلة الراهنة هو القدرة على اشتقاق رؤى قومية استراتيجية تكون بمثابة ضابط ومرجعية توافقية لتدارك الواقع العربي المشظى والمشرذم، ووسيلة لوقف التراجع وإمكانية لتغيير نمط التطلع والقراءة، وطريق لتفكيك وتغيير العلاقات المتضادة السائدة .
التفكير الاستراتيجي كاحتياج ومطلب للعرب هو ما يمكن أن ينقل الواقع العربي إلى صعد ومستويات جديدة تهمل الثانوي وتبقيه في ثانويته ومحدوديته، وترجّح وتقدم عليه التناقضات الرئيسية، وعندما يرى الجميع شعوبا وحكاما من خلال هذا النمط من التفكير طبيعة التحديات التي تواجه الأمة ونوعيتها وإكراهاتها ومخاطرها الكارثية ، فإنهم بالضرورة وبحكم غريزة الوجود وتحسس الخطر سوف يقدمون حتما على تقديم تنازلات وإفساح مجالات من أجل تجاوزها والتقليل من أخطارها وتقديم التهديدات الكبرى على الكثير من المنازعات الجانبية والبينية والرؤى السياسية القطرية التي يراها التفكير الاستراتيجي معرقلة لاستنهاضه وانتهاجه وتجسيده وأخذ دوره في مجال الرؤية والقرار وتخليص الأمة من الرؤى المغلقة المحدودة والمحكومة بالرؤى المصلحية والذاتية الضيقة للدول القطرية وأنظمتها .
والبحث عن الرؤى الاستراتيجية تستدعيه الأزمات كما هو حال الأمة العربية الراهن ولا يأتي في أوقات تصاعد الوعي والوحدة وحسب، وليس أفضل من واقعنا الراهن لكي نراه مجالا لاجتراح المبادرات الكبرى، ولكي نتخذ من التفكير الاستراتيجي منهجا وسبيلا للتجاوز باعتباره خيارا ومطلبا ملحا قد يضعنا على دروب الخلاص والتمكن من خلال ما يتيحة من ممكنات لمراجعة الذات والقدرات المتاحة بطريقة موضوعية وتحديد الخيارات الممكنة لأمة في طور مواجهات ومخاضات متعددة وعلى أكثر من صعيد .
الفكر الاستراتيجي فكر واقعي مستقبلي يحدد للأمة ( وليس بطريقة سحرية على كل حال) طبيعة التناقضات والتحديات، ويبرز ويحدد أخطارها وتأثيراتها الحاضرة والمستقبلية ، كما يشخص العيوب التي تعتري واقع الأمة وتعرقل طرقها نحو الحرية والتقدم ، ويبرز الخيارات التي يمكن للأمة أن تستنهضها لتجاوز واقعها ، ويحدد لها سيناريوهات الحركة الممكنة التي يمكن أن تتجه اليها الأوضاع سلبا أو ايجابا ، وهو بهذه المثابة يضع للأمة الأجوبة الواقعية الممكنة على حالها وواقعها ويضع بيدها دليل العمل المفترض للخروج من الأزمات في حال توفر إرادة النهوض والتغيير .
والتفكير الاستراتيجي يعني الشمول لا الانتقاء والتخصيص فهو يرى الأمة بكامل أطرافها وعناصرها ، ولا يرى الجزئيات والإشكاليات التي تظهر في بعض المراحل إلا بمقدار تأثيرها على المسارات العامة ، كما أنه لا يفصل السياسي عن الاجتماعي والاقتصادي والثقافي ، وإنما هو ينظر لتداخل وتفاعل هذه المستويات وقدرتها على انتاج واقع جديد ومتقدم من خلال معاينة حيثياتها ومؤثراتها على القرار الاستراتيجي ودمجها في الرؤية الشمولية لهذا القرار .
والتفكير الاستراتيجي يرتبط دائما باليقظة ( يقظة الشعب والأمة) ودقة القراءة التاريخية بالمعنى الذي يمكن من رؤية التناقضات والتقاطعات والسعي إلى وضع أجوبة شمولية لواقع متراجع، أو يمكن أن يسير نحو الهاوية والانحطاط في حال افتقاد وغياب الوعي الاعتراضي الانقاذي والاستباقي الذي يتيح للأمة رؤية الأخطار القادمة ويمكّنها من اجتراح لحظة وعي تاريخية وإرادة شعبية مرافقة لها تجسدها وتبلورها وتحولها إلى برامج وخطط جماهيرية للتغيير والنهضة .
تستطيع النخب العربية في هذه المرحلة أن تتضافر فكريا ومؤسسيا للدعوة لهذا النمط من التفكير الجديد الخلاق والذي قد يساعد في عملية الاستنهاض وتجاوز حالة التراجع، وقد ينقل الأمة الى صعيد جديد تتقدم فيه الرؤية القومية التاريخية الشمولية على الرؤى القطرية القاصرة التي أنتجت هذا الواقع المتراجع المشرذم، وأسهمت في مفاقمة عقمه وانسداده.