د/يوسف مكي
في لقاء جمعني مع بعض المثقفين المصريين، في مدينة القاهرة بعد أسابيع قليلة على تنحي الرئيس مبارك عن الحكم، دار الحديث حول التطورات التي كانت آنذاك لا تزال في بداياتها . وكان محور النقاش قد تركز على توصيف ما يجري من تحولات دراماتيكية في الوطن العربي . هل ما تشهده الأمة هو ثورة حقيقية؟ أم أنها لحظة غضب على عجز النخب السياسية عن مقابلة استحقاقات الناس؟
كان أخوتنا المصريون في قمة حماستهم، يسرفون في استخدام مصطلح الثورة، ولم يقبلوا لتوصيف ما جرى بمصر غير توصيف الثورة . ومن جانبي كنت حذراً في القبول به . لكن ذلك لا يقلل من حجم الحراك الشعبي الملحمي لأرض الكنانة . إن التعامل مع الثورة كمفهوم، هو موقف ابستمولوجي، لا يكفي في تحديده كثافة الاندفاع الشعبي، ولا الغليان والصخب الذي يصاحبه .
في المرحلة التي أعقبت سطوة الاستعمار الغربي على الوطن العربي، استخدمت الثورة في أدبيات الفكر العربي، بمعان مختلفة، ارتبطت في الغالب بالكفاح الملحمي ضد الاستعمار، بمعنى ارتباط المفهوم بالتحرر الوطني . وليس في ذلك ضير، طالما أصبح المفهوم واضحاً للمتلقي . الثورة استخدمت أيضاً، بمفهوم التحول في موازين القوى الاجتماعية . وتلك صفة طبعت الثورات الاجتماعية الكبرى في التاريخ الإنساني، وبشكل خاص ثورات فرنسا وانجلترا وروسيا والصين .
وحين نعود إلى الحركات الاحتجاجية الشعبية، التي شهدها الوطن العربي قبل عام من هذا التاريخ، ولا تزال أحداثها تتداعى حتى يومنا هذا، يمكن القبول مجازاً بتوصيفها بالثورة، بمعنى كسر حواجز الخوف، وعبور برزخ القنوط واليأس، وذلك ما لا جدال حوله . أما أنها تعني كنس الترسبات الراكدة، وتحقيق تحولات اجتماعية كبرى في الواقع العربي، فذلك ما لا يزال في خانة التمنيات . ولا يوجد لدينا ما يشي بوجود برامج عملية لتحقيقه .
لقد حدث الحراك الشعبي في البلدان العربية، التي شملها “الربيع العربي” بشكل اتسم بالطابع العفوي، ومن دون مضامين سياسية أو اجتماعية لهذا الحراك . ولذلك كان من الطبيعي أن تغيب البرامج السياسية، كما غابت هوية القوى الاجتماعية التي تصدرتها . وتلك طبيعة أي حراك شعبي عفوي .
ارتبط الحراك الملحمي في تونس بحادثة البوعزيزي، وقد حدثت الانتفاضة التونسية، بعد تجريف منهجي للحركة السياسية الوطنية، من قبل النظام السابق . وتزامن هذا التجريف مع إلغاء متعمد للطبقة المتوسطة، مبدعة الفكر وصانعة التغيير في المجتمعات الإنسانية . جاء الإلغاء في صيغ عدة، تركزت في إلحاق كتل يعتد بها، من المثقفين بالنظام البائد، وبصفقاته الاحتيالية، وربطها بشبكات الفساد . وكان إفقار هذه الطبقة وإخراجها من موقعها الاقتصادي هو الوسيلة الأخرى في الإلغاء .
هناك أيضاً الخشية من أن تستثمر هذه الانتفاضات، والمناخ العام الذي تفرزه، في تحقيق اختراقات خارجية لتفتيت الكيانات الوطنية . فلم يعد سراً أن هناك مشاريع وخرائط معدة لتفتيت المنطقة . وأقصر الطرق لتحقيق ذلك، هو استثمار حالة الفوضى والانفلات الأمني التي ارتبطت بالحركات الاحتجاجية وسقوط رموز الأنظمة في بعض البلدان، بفعل هذه الحركات، هو تسعير الصراعات الطائفية والمناطقية، وبعث الهويات الاثنية .
لقد بدأ التلميح بمشاريع التفتيت منذ منتصف السبعينات من القرن المنصرم . وخلال مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط أعاد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، جيمس بيكر التأكيد عليها، بالحديث عن شرق أوسط كبير، يكون بديلاً عن النظام العربي، الذي ساد منذ منتصف الأربعينات من القرن الماضي .
وأثناء ذلك بدأت تسريبات أمريكية لخرائط واستراتيجيات لشكل الشرق الأوسط المرتقب . كما أصدر رئيس الوزراء “الإسرائيلي” السابق شمعون بيريز كتاباً أوضح فيه تصوراته للشرق الأوسط الذي سيكون بديلاً عن النظام العربي الرسمي . وجاءت محتويات الكتاب متماهية مع المشروع الكوني الذي تحدث عنه وزير الخارجية الأمريكي بيكر في مؤتمر مدريد .
كان الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك، ومبنى البنتاغون في واشنطن، عام ،2001 وإعلان الرئيس بوش الحرب على الإرهاب، فرصة ملائمة لنقل المشروع من التنظير إلى التنفيذ . وكانت بوابة ذلك هي احتلال العراق عام ،2003 والعملية السياسية التي هندس لها السفير الأمريكي بول برايمرز القائمة على القسمة بين الإثنيات والطوائف، وإعادة تركيب المدن بالتهجير المتبادل بين الطوائف، لتؤكد دخول المشروع الكوني الأمريكي مرحلة جديدة، بمصادرة الكيانات القطرية، وتدمير مكوناتها الوطنية، وهوياتها، التي تستمد منها حضورها التاريخي، ومقاوماتها للتغريب .
لكن الدعوة هذه، لأخذ الحيطة والحذر، لا تلغي الثقة في أن التاريخ لا يعيد نفسه . فأوضاع الأمة العربية رغم كل ما يعتريها من ضعف وفوضى، تحمل في رحمها بداية انبعاث جديد، يمكن أن نلحظ معالمه في مواصلة الشعوب العربية لحراكها الشعبي، بما يؤكد استحالة إيقاف عقارب الساعة . والأمل كبير في أن تستعيد القوى القومية عافيتها، وأن تقوم بمراجعة نقدية لاستراتيجياتها ومساراتها، وأن تبزع من ركام التداعي والمعاناة عروبة جديدة، تحافظ على الهوية، وتتماهى مع التحولات الكونية التي تجري من حولها، ويكون فعلها خلقاً وإبداعاً وعطاء وعلماً .