في إحدى جلسات الندوة الإعلامية التي عقدت في دبي منذ بضعة أيام جرى نقاش بالغ الأهمية حول مواقف ونشاطات مختلف الفضائيات العربية تجاه الهجمة البربرية الصهيونية على منطقة غزة وساكنيها. وانقسم المنتدون انقساماً حاداً حول مدى ونوع مسؤوليات الفضائيات التلفزيونية العربية تجاه مجريات الأمور في الأرض العربية.
وفي اعتقادي أن المناقشات كانت في الواقع، حتى ولو لم تقل ذلك صراحة، تشير الى استنطاق جواب للسؤال التالي: هل يكفي أن تكون لغة الفضائية عربية حتى تدرج ضمن قائمة الفضائيات العربية، أم أنه من الضروري أن تتوافر متطلبات أخرى؟ ذلك أن هناك العديد من الفضائيات الأجنبية التابعة لدول غير عربية والناطقة باللغة العربية، ومع ذلك لا يمكن اعتبارها فضائيات عربية تعبر عن مجموع واقع العرب وقضاياهم وتطلعاتهم، فاللغة وحدها لا تكفي. وإذن فما المطلوب توفره، إضافة للنطق باللغة العربية؟ في رأيي أن المناقشات في تلك الندوة أظهرت أن المتطلبين الآتيين يمثلان الحد الفاصل بين القناة التي توصف بأنها ناطقة باللغة العربية وبين القناة العربية الأصلية.
* أولاً: أن تنسجم الكلمات والتعابير المستعملة مع ثقافة الأمة وأشواق قلبها وعقلها وروحها، فأن تتجنب فضائية بصورة لافتة ومقصودة استعمال تعابير من مثل الوطن العربي أو الأمة العربية وتحل محلها تعابير من مثل الشرق الأوسط فإنها تنفصل عن أشواق وأحلام الأمة في وحدتها وتنحاز للمحاولة الصهيونية والامبريالية الرافضة لوحدة الأمة العربية بأي شكل كان والمصرّة على إفراغ الذاكرة الجمعية للشعوب العربية من أحد أبرز خصائص هويتها: الانتماء للعروبة.
وينطبق الأمر نفسه على الفضائية التي تستبدل كلمة المقاومة بكلمات من مثل الإرهاب أو العنف أو المغامرة غير المحسوبة ولا ينطق لسانها قط بكلمات من مثل المقاومات العربية في فلسطين أو جنوب لبنان أو العراق. إنها بذلك تنحاز الى المفاهيم الصهيونية والأمريكية التي لا تعترف بحق وجود أية مقاومة عربية وتتعمد تسمية أنشطة كل مقاومة عربية بالأعمال الإرهابية، وهي بذلك أيضاً تبعد نفسها عن الالتزام باحتضان نضالات شعوبها المشروعة وبإبراز بطولاتها، كما ينطبق الأمر نفسه على استبدال كلمة الشهيد بالقتيل وبالتالي التصادم مع مخزون الثقافة العربية الإسلامية الذي يعطي دلالات دينية ربانية ودلالات نضالية وطنية للجهاد وللشهادة في سبيل الوطن والأمة والحق. ولنتذكر أن الكلمات كما وصفها الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر هي مسدسات محشوة. ومع الأسف فإن بعض الفضائيات العربية، بدلاً من أن توجه تلك المسدسات صوب أعداء الأمة فإنها توجهها نحو رأس الأمة لتفرغه من كل ذاكرة ومن كل تطلعات وأحلام.
* ثانياً: إن وصف الحيادية الباردة، الخالية من أية عواطف وطنية أو قومية والمبتعدة عن أي التزام تجاه الأمة، والتي تستعملها بعض القنوات الفضائية العربية كأسلوب لتغطية الأحداث العربية الكبرى وتقييمها، إن وصف تلك الحيادية بالموضوعية هو حق يراد به باطل. إن الموضوعية مطلوبة، ولكن الموضوعية التي نفهمها لا تحل لأية قناة فضائية أن تقف على نفس المسافة بين الأمة والوطن من جهة وبين أعداء الأمة والوطن من جهة أخرى. أن تكون المسافة مثلاً بين المجرم الجلاد الصهيوني وبين الضحية الفلسطينية أو بين المحتل الأمريكي والمقاومة العراقية الباسلة مسافة متساوية فإنها تعني انفصال تلك القناة عن أمتها ووقوفها، قصدت أم لم تقصد، في خندق الأعداء. الموضوعية هي الصدق في الوصف والتحليل، أما الحيادية الباردة فإنها غياب المبادئ والقيم والأخلاق والاستهزاء بثوابت الأمة. الحياد البارد هو مساواة الظلم بالعدل والقاتل بالضحية والاعتداء بالدفاع عن النفس. من هنا فإن تلك الحيادية ليست إلا تعبيراً عن ظاهرة الانفصال والاغتراب في شخصية القناة وأصحابها عن واقع الأمة. وإذا كانت تعقيدات الحياة الحديثة قد أدت الى غربة الإنسان وانفصاله عن نفسه الحقيقية، وهي الظاهرة التي وصفها ببلاغة مفكرون من أمثال ماركوز وإيريك فروم، فإن من الواضح أن حالة الأمة العربية الحالية بضعفها وهوانها على نفسها جراء تكالب الأعداء عليها من كل صوب وحدب، قد أدت الى ظهور ظاهرة الانفصال والاغتراب عند بعض العرب وعند بعض مؤسسات العرب، عن مجتمعاتهم وعن أنفسهم العربية الحقيقية.
لقد كان الوعي العميق بأهمية المتطلبين السابقين مهيمناً عند الغالبية الساحقة من الحاضرين في تلك الجلسة، فكان أن أشاد الكثيرون بالتغطية المتميزة، عروبة والتزاماً قومياً، لمأساة أهالي غزة من قبل قناة الجزيرة الفضائية وأخوات لها، واستنكر واستهجن الكثيرون التغطية الحيادية العاجزة لأحداث غزة من قبل بعض القنوات وأخوات لهن، كانت الجلسة تحكيماً للعقل وللقلب وللروح.