هذه قضية سياسية وفكرية لها اهمية كبرى. وتهمنا نحن في العالم العربي والاسلامي بصفة خاصة. والجدل الدائر الآن حولها في امريكا يجب ان نتابعه بكل دقة وتأمل.
في العدد القادم من مجلة "نيوزويك" الامريكية الشهيرة الذي سيصدر في 1 فبراير تحقيق فكري وسياسي موسع بعنوان "عودة النيوكونز".
والنيوكونز هم "المحافظون الجدد" في امريكا. وهم يشكلون تيارا فكريا وسياسيا قويا ومؤثرا في الحياة الامريكية. وقد بلغ هؤلاء ذروة نفوذهم وتأثيرهم كما نعلم في عهد بوش.
كان هؤلاء هم الذين صاغوا الافكار والسياسات والخطط العدوانية التي تم تنفيذها في عهد بوش. كانت افكار هؤلاء وراء غزو واحتلال العراق وافغانستان والحرب على الاسلام والمسلمين وما اسمي بالحرب على الارهاب الاسلامي.. وهكذا.
قبل ان اشير الى الفكرة الاساسية التي يطرحها تحقيق الـ "نيوزويك" من المهم التذكير بالأفكار الاساسية الكبرى التي يتبناها المحافظون الجدد هؤلاء.
لعل الفكرة الجوهرية لدى المحافظين الجدد هي ما يطلقون عليه "الاستثناء الامريكي". أي اعتبار ان الولايات المتحدة هي قوة عالمية استثنائية يحق لها ما لا يحق للآخرين ويجوز لها ما لا يجوز للآخرين.
من هذه الفكرة نبعت فكرة جوهرية اخرى هي "الهيمنة الامريكية" أي ان الوضع الطبيعي هو ان تلعب أمريكا دورا مهيمنا في العالم.
وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، فان العنف والقوة بكل اشكالها هي وسائل طبيعية ومبررة تماما. وايضا في سبيل تحقيق هدف الهيمنة، فان امريكا ينبغي ألا تلقي بالا لا للقانون الدولي واحكامه، ولا للاعتبارات الاخلاقية في السلوك وفي التعامل مع الدول.
وهؤلاء المحافظون الجدد يكنون كراهية عمياء للاسلام وللعرب والمسلمين. وهم لا يرون أي غضاضة في التدخل السافر في شئون الدول العربية والاسلامية بغرض اخضاعها.
كما قلت، الخطاب الفكري والسياسي للمحافظين الجدد كان طوال عهد بوش هو الخطاب السائد سياسيا واعلاميا. وكان هؤلاء هم اصحاب القوة والنفوذ الحقيقي من خلال تواجدهم في الدوائر المختلفة لإدارة بوش.
المحافظون الجدد تراجع نفوذهم وتأثيرهم المباشر في الفترة الماضية، حتى قبل فوز اوباما ومجيئه الى السلطة.
كان وراء هذا التراجع عاملان بصفة رئيسية:
كان العامل الاول هو الفشل الذريع للاحتلال الامريكي في العراق. وهو الفشل الذي كان قد اصبح واضحا باعتراف الامريكيين انفسهم في الفترة الاخيرة من حكم بوش. حتى ان اغلب هؤلاء المحافظين الذين كانوا يشغلون مناصب تنفيذية في ادارة بوش غادروا مناصبهم في اواخر حكمه.
اما العامل الاهم الثاني، فقد كان صعود باراك اوباما في الحياة السياسية الأمريكية والذي انتهى بفوزه في الانتخابات، بخطابه الجديد الذي اتى به.
خطاب اوباما في فترة حملته الانتخابية، وايضا بعد توليه الرئاسة، كان خطابا يختلف الى حد كبير جدا مع خطاب المحافظين الجدد. فكما نعلم، كان خطابه يقوم على السعي لحل المشاكل والازمات العالمية بالحوار والتعاون لا بالقوة او التهديد باستخدامها، وعلى ان امريكا يجب ان تتخلى عن هدف الهيمنة العالمية بكل ما يرتبط بذلك، وعلى اعطاء ادوار اكبر للمنظمات الدولية لا السياسات الانفرادية، وعلى احترام القانون الدولي.. وهكذا. وهذه كلها افكار تختلف كثيرا عن افكار وسياسات المحافظين الجدد.
اذن، بسبب هذين العاملين، خفت صوت المحافظين الجدد في امريكا، وتراجع بالطبع الى حد كبير التأثير المباشر لهم على السياسات الامريكية.
الفكرة الجوهرية التي يطرحها تحقيق مجلة "نيزويك"، هو ان الفترة القليلة الماضية، شهدت عودة هؤلاء المحافظين الجدد بقوة الى الساحة الفكرية والسياسية الامريكية، وانه من المتوقع ان دورهم سيزداد اكثر في المستقبل.
كيف ؟.. وماذا يعنيه هذا بالضبط؟
هذا حديث آخر بإذن الله.