محمود القصاب
في المقال السابق توقفنا عند الحقيقة التي أكدنا من خلالها أن التحرك الشعبي السلمي من حيث طبيعته الزمنية ليس حراكاً (ظرفياً) يمثل ردة فعل على حالة جزئية أو وقتية، وقلنا أيضاً إنه ليس حراكاً (انفعالياً) يفتقر إلى الوعي والنضج ووضوح الأهداف.
لذلك فإن زخمه لم يتوقف، ولم يتراجع، بل وجدنا أنه بمرور الوقت كانت قاعدته الاجتماعية والسياسية تصبح أكثر وعياً وثباتاً وأكثر استعداداً للتضحية، وخاصة بعد أن صارت الأهداف والمطالب أكثر وضوحاً ما ضاعف من قدرتها على الإقناع والاستجابة من جانب المواطنين على مختلف انتماءاتهم السياسية، وبعد أن تبلورت على شكل حزمة أو صيغة سياسية تعكس رؤى القوى السياسية المعارضة وجماهيرها، وبصورة خاصة في محطتها الأخيرة التي شهدت صدور «وثيقة المنامة» التي باتت اليوم توفر أرضية مناسبة لأي حل سياسي قادم، إلى جانب مبادرة سمو ولي العهد وتوصيات لجنة تقصي الحقائق. ولقد جاءت مسيرة 9 مارس لتؤكد صحة هذه الرؤية.
إن هذه الفكرة تقودنا إلى حقيقة أخرى لا تقل أهمية: وهي أن الحراك الشعبي وفق المنظور الذي أشرنا إليه يكون حراكاً وطنياً عابراً للطائفية وللانتماءات الفئوية أو الحزبية، لأنه يرمي إلى جعل أوضاع البلاد أفضل بعد تخليصها من حالة العجز الديمقراطي المزمنة الذي تعاني منها. ومن ثم جعلها أكثر احتضاناً لقيم الحرية والديمقراطية، وأكثر استجابة لمبادئ المواطنة والعدالة الاجتماعية. وهي الركائز الأساسية في بناء النظام السياسي الذي توافقنا عليه في ميثاق العمل الوطني، وإن هذه القيم والمبادئ إذا ما ترسخت وتجذرت كقواعد للدولة المدنية التي نتطلع إليها، وتم البناء عليها في كل المجالات السياسية والحقوقية والاجتماعية والاقتصادية، لا يمكن لأحد بعد ذلك أن يدعي أنها ستكون حكراً على فئة دون أخرى، أو أن حصادها وثمارها السياسية والاجتماعية ستكون مقتصرة على طرف سياسي أو اجتماعي دون الآخر؟
عند هذه النقطة تسقط كل تهمة باطلة بأنه حراك طائفي أو انقلابي يحمل أجندات خارجية. كما درج الإعلام الرسمي وبعض الدوائر الإعلامية والصحافية التابعة الترويج له، إضافة إلى بعض القوى التي جاءت من رحم الأزمة، وأصبحت جزءاً منها، واعتادت بصورة دائمة على وصم هذا الحراك بالكثير من النعوت السلبية ومحاولة إلباسه لبوس الطائفية زوراً وبهتاناً، لأسباب ودوافع لم تعد خافية على أحد؟
من المؤسف القول: إن هذه القوى مجردة من السياسة وأسبابها ومهووسة بـ «التمذهب السياسي» وأوهامه، ومسكونة بنزعة الهيمنة والاستئثار فإن اختراق النظام السياسي والإداري في الدولة يمثل لها فرصة سانحة لتجييرهما لمصالحها الحزبية والطائفية، وليس من باب التجني القول إن هذا الوضع هو المسئول عن تعاظم وتفشي ظاهرة التمييز الطائفي والعرقي والقبلي في أجهزة الدولة والذي يعد من أهم أسباب تفجر الأزمة الراهنة.
وهكذا نصل من هذه المقدمات إلى النتيجة المنطقية والصحيحة وهي أن هذا التفكير الفئوي والإقصائي هو المسئول الأول والأخير عن ما آلت إليه أوضاعنا السياسية والاجتماعية من تدهور، وهو المسئول أيضاً عن الخراب الذي ضرب البنية الاجتماعية وهز أسس التعايش الأهلي في المجتمع البحريني، وبالتالي هو من يتحمل مسئولية إبقاء الضغائن والأحقاد مشتعلة في القلوب والعقول، التي لا يعلم سوى الله عز وجّل كم من الوقت والجهد نحتاج لتنقيتها من هذه الآفات المدمرة، ومداواة الجراح التي مازالت تنزف، على طريق إخراج الوطن من محنته، وإخراج المواطن من ضيق ومحدودية انتمائه المذهبي إلى رحاب المواطنة الفعلية؟
من هنا نجد أنفسنا مضطرين لمطالبة من أوجد هذه القوى ومكنها ونفخ في صورتها بأن يعمل على ضبط إيقاعها وإعادتها إلى رشدها ومحاولة إقناعها بأن افتعال المعارك الوهمية لا طائل منه، بعد أن «حصص الحق» وتبين «الخيط الأبيض من الخيط الأسود».
ولأننا على قناعة تامة بأن أزمتنا الراهنة هي ذات جذور وأسباب داخلية، فإننا نؤمن إيماناً مطلقاً بأن معالجتها وحلولها يجب أن تكون وطنية خالصة من دون أي تدخل أو تأثير خارجي،إلا أن المفارقة التي تستدعي التوقف عندها، هي أن القوى التي درجت على كيل التهم لقوى المعارضة بالتبعية والعمالة الخارجية والتي لم تدخر كلمة في قاموس السباب والشتائم دون أن توظفها في حملتها على المعارضة بكل أطيافها السياسية والفكرية بهدف شيطنتها التي هي مرة «خائنة» ومرة أخرى «عميلة» وثالثة هي من «الخوارج» الذين بغوا على إخوانهم؟
نقول: المفارقة هنا أن هذه القوى بإصرارها على مواقفها المتشنجة الرافضة لأية حلول سياسية عادلة والتمادي في السلوك والخطاب اللذين يزيدان الوضع احتقاناً وتوتراً طائفياً إلى درجة إضعاف المجتمع وتمزيقه، إنما هي في الواقع تستعجل تلك التدخلات الخارجية، حيث كما نعلم ليس هناك أفضل من هذه الظروف السياسية والاجتماعية المضطربة، لتحفيز وتحريض كل التدخلات في شئون وطننا، وتحويله إلى ساحة صراع بين دول إقليمية ودولية لكل منها مصالحها وحساباتها وبذلك تجعله مكشوفاً إزاء التحديات والأخطار الخارجية بعد أن تضعف مقاومته ومناعته أمام كل القوى المتربصة البعيد منها والقريب؟ هذا ناهيك عن الانتقائية والازدواجية الفاضحة التي تتعامل بها هذه القوى مع هذه المسألة (التدخلات الخارجية) فيما يخص الأوضاع السياسية في ساحات أخرى من الوطن العربي. فالمعايير هنا ليست لها علاقة بالمبادئ والوطنية، إنما هي المصالح الحزبية والطائفية التي تمثل «حجر الزاوية» في تفكيرها وسلوكها. وليكن بعد ذلك الطوفان؟
ما نريد أن نخلص إليه من هذه الرؤية أو التحليل الذي قد يزعج أو يصدم البعض، نظراً لصراحته الموجعة، هو التأكيد على قضية جوهرية مفادها أنه طالما سيكون هدف أي حوار قادم هو الوصول إلى حل سياسي متوافق عليه من قبل جميع الأطراف، ينبغي أولاً إقرار عناصر هذا الحوار، التي تشمل الأهداف والقوى المعنية بالمشاركة والآليات التي ستحدد المخرجات أو النتائج النهائية، ثانياً من البديهي القول إن التوصل إلى حلول عادلة يحتاج إلى نضج سياسي ومقدرة أو استعداد على تقديم تنازلات متبادلة، وقبل كل ذلك يحتاج الحوار إلى رؤية واضحة للتغيير وإرادة حقيقية للإصلاح السياسي من جانب الحكم، ومن تلك القوى لم تزل توزع الاتهامات يمنة ويسرى بحق المعارضة وجماهيرها المشاركة في الحراك، ولم نرَ منها حتى الآن ما يثبت امتلاكها القدرة والرغبة في الحوار والتفاوض. ولم تقدم – سواء على مستوى الممارسة العملية أو الخطاب السياسي – ما يؤكد تمتعها بالنضج السياسي الذي يؤهلها لإنجاز هذه المهمة المصيرية.
لذا فإننا ندعو الجميع إلى استحضار تاريخ التسامح والتعايش الأخوي بين كل أطياف ومكونات المجتمع البحريني عبر كل مراحل تاريخ شعب البحرين! وكذلك أيضاً استحضار كل القيم والثوابت الوطنية، وكل المواريث الحضارية التي عرفتها البحرين، وعرفت بها.
ومن نافلة القول إن هذا الأمر يتطلب وجود قوى تؤمن حقاً بالتعددية والديمقراطية، وقبول الرأي الأخر؟ قوى قادرة على استيعاب كل مفاهيم الدولة المدنية التي تقوم على احترام حقوق الجميع، وتدافع عن رأيها ومواقفها بطريقة حضارية وإنسانية، مسنودة بالمنطق والحجة، من دون الحاجة إلى الفتك بالآخرين أو التعدي عليهم لمجرد الاختلاف في الرؤى السياسية.