ربما هي مصادفة ذات مغزى أن ما يسمى 'الاتفاقية الأمنية ' سارت في خط متواز مع عودة سفراء دول عربية والجامعة العربية ذاتها في بغداد .
وربما ليس في الأمر مصادفة من أصله، فالفاعل واحد في الحالين، وكما أن أمريكا لاتفاوض أحدا في العراق، إلا على سبيل الإيحاء بوجود طرف آخر ليس أكثر من 'حكومة دمى'، وهو السيناريو ذاته الذي جرى في إعادة السفراء العرب، فقد أمرت أمريكا، وأمرت كونداليزا رايس بالتحديد، وفي اجتماع جرى قبل شهور مع وزراء خارجية دول ما يعرف محور الاعتدال، وجرى تنفيذ الأمر بالدقة والهـــمة اللازمتين، وبترتيبات أمنية متفق عليها، وانتهى السفراء العرب إلى الجوار الأمريكي في المنطقة الخضراء .
والإجراء ان الأمريكيان (الاتفاقية وعودة السفراء) لهما هدف واحد ظاهر، وهو 'شرعنة ' احتلال أمريكي طويل المدى في العراق، فالمعروف أن تفويض مجلس الأمن لبقاء القوات الأمريكية ينتهي بنهاية كانون الأول (ديسمبر) 2008، وقد جرى التفويض ذاته تحت ضغط أمريكي جارف، وهـــــو ما يتكرر الآن مع حكومة الدمى في بغداد، ومع الحكام الدمى في عواصم عربية خاضعة للسلطان الأمريكي، والهدف : تسليم الضحية ذاتها بالجريمة، وتسهيل الحصول على 'شرعية عربية' ـ ولو بطريق الاغتصاب ـ تدعم الاحتلال الأمريكي، وتجعله في حكم العادة والفرض والسنة، وبغطاء كاذب للتمويه هو محاربة الدور الإيراني في العراق .
وفي داخل العراق، لا تبدو الاتفاقية الأمنية ـ المقرر توقيعها ـ عنصر تغيير في الصورة، فالاحتجاجات ضدها تشمل عرب العراق شيعة وسنة، المرجع الديني كاظم الحائري أعلن رفض الاتفاقية، وكذا فعل المرجع الديني حسين فضل الله، والتيار الصدري ـ أوسع جماعات الشيعة شعبية ـ يرفض اتفاقية تأبيد الاحتلال، وبالطبع رفضتها فصائل المقاومة العراقية المسلحة، وكان موقف هيئة علماء المسلمين بالعراق قاطعا وسباقا، وأصدرت أول فتوى تحريم ضد الاتفاقية، فالهيئة ـ السنية بتكوينها الغالب ـ لها موقف مضئ عظيم الوعي، فبرغم قلقها وإدراكها لخطورة توحش الدور الإيراني داخل العراق، إلا أنها تقدم أولوية مقاومة وإزالة الاحتلال الأمريكي على ماعداه، ولرمزها البارز الشيخ حارث الضاري تشبيه عراقي يلخص الموقف برمته، فقد قال مرة: أن الاحتلال الأمريكي يشبه نخلة حطت عليها أطيار سود، وأن النفوذ الإيراني مجرد طير حط على رأس النخلة، وأن قطع نخلة الاحتلال وخلعها من جذورها سوف يعني استعادة إرادة العراقيين الحرة، وذهاب طائر النفوذ الإيراني إلى ما وراء الحدود .
وفي المحيط العربي، تبدو الصورة أوضح، فعودة السفراء العرب لا علاقة لها بمقاومة نفوذ إيراني، ولا باستعادة وتحصين العروبة في العراق، فالعواصم التي أرسلت سفراءها إلى بغداد تنقصها العروبة بالذات، فلا أولوية عندها لالتزام عربي الطابع، وسفراءها إلى بغداد في الموضع ذاته الذي بدأت وانتهت إليه حكومة الدمى، فالكل يسكن في المنطقة الخضراء، وحيث الحماية الأمريكية الجاهزة، وما من فرصة لانتقال أو حوار مع تيارات وفصائل الرفض والمقاومة العراقية، والكل في وضع 'كردي ' تماما، أي في وضع الاحتماء بالاحتلال تماما كوضع فصائل الكرد المتحكمة، وكوضع رئاسة العراق ـ العربي ـ التي انتهت إلى كردي، ووضع وزارة خارجية العراق ـ العربي ـ التي انتهت إلى كردي، وكأن المقصود هو 'تكريد ' العراق تحت الحماية الأمريكية، ثم تكريس اعتراف عربي رسمي بكردية العراق، وقد كان الكرد ـ فيما مضى ـ يطلبون حق تقرير المصير، وانتهت القصة ـ مع الاحتلال الأمريكي ـ إلى عراق يتقرر مصيره على أيدي الكرد، وإلى جعل عرب العراق، وهم الغالب الساحق لأهله، مجرد أقلية سياسية، ويحق لهم ـ بنص دستور الاحتلال ـ إدعاء الانتساب للأمة العربية!
وعودة السفراء العرب ـ بالضغط الأمريكي ـ تضيف المساخر إلى المساخر، وربما يكون الحرص على افتتاح مكتب للجامعة العربية ذاتها في بغداد مما يضيف لصورة المساخر، فمكاتب الجامعة تفتتح في العادة في عواصم أجنبية، وفتح مكتب للجامعة في بغداد قد ينفي عنها صفة العاصمة العربية، والتسليم بوضع 'أجنبي' ـ غير عربي ـ لبغداد وللعراق، وهو ما يتوافق مع نصوص دستور الاحتلال الأمريكي، والذي لايتحدث بحرف عن عروبة العراق، وكما جرى اتفاق العرف عليه في دساتير الدول العربية، بل يقول ـ فقط ـ أن العراق عضو في منظمة دولية اسمها الجامعة العربية، وتماما كما هو عضو في منظمات دولية أخرى كالمؤتمر الإسلامي والأمم المتحدة، وينكر على البلد اي هوية او انتماء يخصه عدا جغرافيا اسمها العراق، وهكذا صودرت عروبة العراق رسميا، بينما صار للكرد دولتان، دولة في الشمال برئاسة مسعود البارزاني، ودولة في بغداد برئاسة جلال الطالباني، وعودة السفراء العرب دون اشتراط تعديل الوضع، ودون اشتراط حكم عربي في بغداد على الأقل، والذهاب دون اشتراط يعني التسليم باشتراطات الاحتلال وشروط الكرد من خدم الاحتلال!
ثم أن هذه العواصم التي أرسلت سفراءها إلى بغداد، وربما باستثناء دمشق، هي ذات العواصم التي لعبت دورا مقدرا في دعم المجهود الحربي الأمريكي لاحتلال العراق، فلم يكن لبغداد أن تسقط بالسلاح لولا أن سقطت القاهرة بالسياسة قبلها بربع قرن، ولم يكن ممكنا أن تحتل أمريكا العراق بهجمات من السماء، بل ذهبت أمريكا للعراق على خط سير عربي ممتد من قناة السويس إلى الكويت، خط سير تنتشر وتتكاثر عليه القواعد الأمريكية كالفطر السام، وكانت الأدوار موزعة بعناية، جرى السماح لهذه العواصم بأحاديث باهتة عن الرغبة في تجنب الغزو، ومقابل أن تؤدي أدوارها في الحرب طبقا للخطط الموضوعة، وأن تفتح مياهها وأراضيها وأجواءها لعبور طائرات وسفن وقوات الحرب، ويكفي أن أكبر دولة عربية ـ وهي مصر ـ قد فتحت أجواءها لعبور مقاتلات أمريكية ذاهبة بالدمار لأفغانستان والعراق، ليس مرة واحدة ولا مرتين ولاعشر مرات، بل لأكثر من 36 ألف مرة بين عامي 2001 و2005 بحسب وثيقة لمكتب المحاسبات الأمريكي، أضف إلى ذلك أن عواصم السفراء العائدين لبغداد ـ بما فيها دمشق ـ شاركت تحت القيادة الأمريكية في حرب الخليج الثانية ضد العراق .
فهل يتوقع أحد خيرا من عواصم شاركت ـ بالعمد ـ في جريمة احتلال بلد عربي؟ لا يصح ذلك ـ بالطبع ـ في منطق العقل، فهي لاترسل سفراءها الآن إلى بغداد في عمل دبلوماسي، بل تشارك في دعم عمل حربي عدواني، وتضفي رداء من 'شرعية' على تأبيد احتلال العراق بالاتفاق الأمني أو بغيره، وليس لهدف إلا لكسب الرضا الأمريكي، وكسب مودة إسرائيل النشيطة في العراق، وفي المنطقة الكردية بالذات، فقد أصبح الأقرب مودة لإسرائيل هو صاحب القربى في هذه العواصم ذاتها، وسواء كان من عينة العملاء الكرد، أو من عينة سمير جعجع ـ رجل شارون اللبناني ـ الذي جرى له استقبال الفاتحين في القاهرة أخيرا .
وبالجملة، تبدو الصورة واضحة بغير الرتوش، فجيش احتلال العراق يضم ـ إلى القوات الأمريكية ـ حكومة الدمى وسفراء العرب وعملاء الكرد، وهؤلاء هم مجرد تلاوين في صورة احتلال العراق ونفى عروبتـــــه، بينما عروبة العراق تسكن في عنوان آخر، تسكن في مقار قيادة فصائل المعارضة والمقاومة السياسية والعسكرية، فالمقاومة المسلحة هي الممثل الشرعي الوحيد للعراق ولعروبته
27/10/2008القدس العربي