لم يبق حقل من حقول النشاطات المجتمعية العربية لم يسهم بعض الوسائل الإعلامية العربية في حرفه عن مساراته الطبيعية أو في جعله ساحة صراعات عبثية أو في قلبه إلى خنجر يزيد من جراح هذه الأمة المنهكة.
ففي السياسة سمحت تلك الوسائل للعابثين من الساسة المسؤولين العرب باستعمالها مطية يركبونها في صراعات الأنظمة بحيث ان تلاسنها مع بعضها بعضا يؤجج نيران العداوات بين الأقطار والشعوب العربية لحساب هذا الرئيس أو الزعيم أو الحكومة أو الحزب. وعندما تنقشع سحب المعارك الإعلامية تلك تكون الشعوب وتكون الأوطان هي المسجاة في ساحات القتال وهي تنزف وتتقيح. وكذا الأمر في حقل الدين عندما ينبري بعض المنابر لتأجيج الأحقاد الطائفية والعداوات المذهبية التاريخية، بل لرسم أجواء الكراهية حتى توصل الموتورين إلى ارتكاب موبقات الإرهاب والتطرف الأعمى، وعندما ينجلي غبار المعركة يكون الدين هو الضحية، إذ عند ذاك تحت رايات الدين تدور حماقات المعارك التي لا يرضاها الله ولا تصب في صالح الوطن.
وفي حقل الاقتصاد تخضع معايير مهنية تلك الوسائل، وأحيانا صدقيتها وشرفها، لاعتبارات الحاجة إلى الإعلان والخضوع للمعلنين، وبقصد أو من دون قصد تسهم غالبية المنابر في نشر وتعزيز ودعم ثقافة الاستهلاك المادي والمعنوي النهم وفي الانبهار بادعاءات تلك الثقافة العولمية وتقديمها كثقافة اليسر والرفاهية والمكانة الاجتماعية. ومن أجل ذلك تخوض معارك الخصخصة المجنونة من دون توازن ولا شروط، وتفتري على المؤسسات الاقتصادية التي يملكها المجتمع باسم التشكيك في كفاءة الدول أو الحكومات في ادارة الاقتصاد، وتسهم من حيث تدري أو لا تدري في انتقال ثروة المواطنين العامة إلى أيادي قلة وطنية متخمة أو إلى أيادي قلة أجنبية ناهبة. وكذا الأمر في حقل الثقافة الذي يسهم الكثير من منابر الإعلام في حرفه نحو المجون والسطحية والتخريف وصرعات الموضة وموبقات الجنس لتسهم في تربية أجيال لا تشبع من الملذات الحسية وذلك على حساب توازنها العقلي والروحي وعلى حساب الالتزامات الوطنية والقومية تجاه أمة تخوض أقسى صراعاتها المصيرية مع الهجمة الصهيونيـــــة – الاستعمارية ومع الاستبداد الداخلي.
ويستطيع الإنسان تعداد العشرات من الحقول الأساسية والفرعية التي يسهم بعض الوسائل الإعلامية في قلبها رأساً على عقب وفي تهديم أسسها القيمية والأخلاقية. ومن هذه الحقول الفرعية حقل الرياضة الذي بدلاً من أن يكون حقل بناء للأخوة العربية ولتعارف الأجيال العربية إلى بعضها بعضا ولقبول الانتصارات والهزائم بتسامح قلبه بعض الوسائل الإعلامية وبعض الموتورين الإعلاميين إلى حقل حزازات وكراهية وصدامات كلامية وجسدية. ولقد وصل الحال المأساوي إلى قمته في المسرحية الكوميدية – المبكية عندما تلاقى فريقا كرة القدم الجزائري والمصري منذ بضعة أيام. لقد شحِنت أجواء المسرح حتى الجريمة وتلاعب الأراذل بأعصاب الجماهير حتى أخرجوها من طورها وعروبتها وإسلامها وبشريتها. ومع أن واقع التعامل الإعلامي العالمي برمته مع موضوع الرياضة قد أصبح مصدر فساد وإفساد للمجتمعات والنفوس ونبل الرياضة وقيمها الرفيعة، إلا أن الأمر يجب أن يختلف في بلاد العرب. فنحن أمة مستهدفة من قبل أعداء في الخارج والداخل لتأجيج الصراعات القطرية والإثنية والمذهبية والايديولوجية والقبلية ولإبقاء الأمة في تخلف دائم وفي تيه ثقافي وذهني، وبالتالي فإن الإعلام العربي يحتاج إلى أن يأخذ ذلك الوضع المتأزم للأمة بعين الاعتبار ويعطيه أهمية كبرى تصل إلى حدود المسؤولية الأخلاقية والقومية تجاه التخفيف من مآسيه، لا إضافة الحطب إلى ناره.
إذا كان الاعلام العربي يعتبر نفسه مهنة كباقي المهن فلينظم نفسه، على المستويين الوطني والقومي، على ثوابت وأسس ما ينهض بالأمة وليضع لنفسه معايير صارمة تحكم كل أعضائه ومنتسبيه من المؤسسات. وفي القديم قال الكاتب اليوناني الشهير سوفوكليس إن "قيمة المعرفة يحددها اسلوب استخدامها"، ونحن سنستعير هذا القول لنتوجه لوسائل الإعلام العربية بالتذكير بأن "قيمة الإعلام أيضاً يحددها أسلوب استخدامه"، ولقد وصلت أساليب الاستخدام عند البعض إلى مشارف العهر وآن الأوان لتوقف عند حدها.