لنمعن النظر في المشهد الإيرلندي السياسي: حكومة حزب يحكم بأغلبية برلمانية ساحقة عبر العديد من عقود الزمن، لكن الحزب الحاكم بعد مجد طويل يرتكب غلطة العمر في إدارة الحياة الاقتصادية الأيرلندية، الأمر الذي يؤدٍّي إلى أزمة مالية كادت أن توصل البلد إلى الإفلاس والانهيار الاقتصادي.
فماذا فعل الشعب الإيرلندي كردٍّ فعل لما ارتكبه الحزب الحاكم؟ لم يكن بحاجة لأن يخرج في الشوارع ليصطدم بقوى الأمن وتسيل دماء الأبرياء وذلك لأن لديه آلية ديمقراطية سلمية للمساءلة والمحاسبة، متفق عليها، محترمة من قبل الجميع، لا يمكن تزويرها أو التلاعب بنتائجها، ونعني بها آلية الانتخاب الحر النًّزيه الدوري لبرلمان يمثٍّل إرادة الشعب الحقيقية ويعكس مزاج ومشاعر وقرارات النَّاخبين.
فكان أن أنزل النًّاخبون هزيمة منكرة بالحزب الحاكم وقلًّصوا نسبة تمثيله في البرلمان الجديد من ثمانين في المائة إلى عشرين في المائة.
إرادة الشعب كانت هي الحَكَم وأصواته الانتخابية كانت منطوق الحكم الواعي العادل.
لم تتحرك قوى بلطجية الأمن أو مخبروها السريٍّون الفاسدون لتمنع العقاب. لم يقل الحزب الحاكم بأن رئيسه هو المجد وهو الوطن وهو التاريخ ومصدر التقدم وأن إزاحته هو إسقاط للنظام السياسي وأن خروجه من الحكم خطّ أحمر. لقد انسحب الحزب ليلعق جراحه وليهيٍّئ نفسه لإقناع الناس، صاغراً ومستجدياً، بإعطائه فرصة جديدة في الانتخابات القادمة.
لنقارن ذلك بالمشاهد المبكية المضحكة التي رأيناها مشدوهين لمسؤولي وأحزاب الحكم في تونس ومصر وليبيا واليمن والتي قد نراها قريباً في أقطار عربية أخرى.
لقد خرج الملايين من المواطنين في مظاهرات واعتصامات حاشدة سلميًّة ليعبٍّروا عن غضبهم ويأسهم من سلطات ورموز الحكم الفاسدة الاستبدادية الظالمة وضحى الكثيرون من شبابهم الطًّاهرين العزًّل بحياتهم على يد قوى أمن أشبعت بثقافة إعلاء النظام السياسي على المواطنين والوطن.
ولقد رأى العالم كلُّه بشاعة البطش الهمجي في مدن وقرى تلك الأقطار وأحسٍّ بالمكانة الدُّونية التي تعطى للمواطنين من قبل أنظمة الحكم. وكانت الفاجعة عندما خرج رموز الحكم على شاشات التلفزيونات ليسردوا بصورة مثيرة للشفقة بطولاتهم وتضحياتهم الشخصية السًّابقة ومنجزات حكمهم وحكم أحزابهم في السنين الماضية.
وببراءة الأطفال السذًّج وجهلًّ أميًّة قراءة التاريخ بدا أن أولئك الرموز يؤمنون بأن حسنات الماضي تُذهب وتمحو سّيئات الحاضر. ونسوا أن الشعوب لها ذاكرة وحقوق وأن المحاسبة هي أهمّ دعائم ممارسة السياسة. فما الــفرق بين المشهد الأيرلندي والمشاهـد العربية؟
في بلاد العرب سدُّت منافذ التعبير بغياب الحرية ومنافذ المحاسبة والفعل بغياب الأنظمة الديمقراطية أو بوجودها كأنظمة مزوًّرة ومقيًّدة ومخترقة من قبل سلطات الحكم، بينما كان العكس في المجتمع الإيرلندي.
مناسبة هذه المقارنة التي صادف ضرورتها حدوث المشهدين في وقت واحد وبصورة صارخة موجعة للقلب. وبالمقارنة يجب أن يقرأ الجميع صورة المستقبل السياسي العربي. فسلطات الحكم يجب أن تعرف أنً سدًّها لمنافذ التعبير الحر ولإمكانيات الفعل الديمقراطي السٍّلمي، في الماضي وفي الحاضر، سيبقيها مهتزة الأركان وقابلة للإنهيار.
لن تستطيع الجيوش ولا أجهزة الأمن ولا أكاذيب الإعلام البليد ولا حيل النًّهب المبرمج لثروات الأمة ولا قوى الإستزلام النفعيًّة حمايتها من السًّقوط المذلً المبهر الذي رأينا صوراً منه خلال الأسابيع الماضية. طال الزًّمن أم قصر ستغلب الشعوب مذلٍّيها وقاهري مجتمعاتها.
أما الشعوب العربية، التي تسجٍّل في أيامنا أروع الانتصارات وأفجع التضحيات فان قادة كفاحها من شباب ومؤسسات تمرُّد على وحل الماضي مطالبون في هذه المرًّة بأن لا يوقفوا مسيرة الانتقال إلى الحرية والديمقراطية السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلاُ بعد وصولها إلى برًّ الأمان.
وبر الأمان هو أن لا تستطيع أية قوة في هذه الأرض إرجاع تلك المسيرة إلى الوراء. ونكوص تلك المسيرة تتمُّ دوماً على يد مجموعة صغيرة من الناس ديدنها أنها تعشق أنظمة الاستبداد لا لكي تعيش تحت ظلٍّها وإنًّما لكي تقود مسيرتها وتتلذًّذ بالدًّوس على كرامة وإنسانية الناس.
ومع ذلك دعنا نذكٍّر أنفسنا منذ الآن بأنه لم يوجد قط، وعلى الأغلب لن يوجد، أيً نظام سياسي يضمن دوام الانتصارات التي تحقٍّقها الشعوب المناضلة. الضمان الوحيد هي إرادة وحيوية الشعوب نفسها. دعنا منذ الآن نهيٍّئ أجيال المستقبل لتكون عندهم تلك الإرادة وليمارسوها بحيوية.
ينسب لونستن تشرشل قوله بأن الطغاة يركبون ذهاباً وجيئة، نموراً يخافون أن ينزلوا من على ظهورها لأنهم يعرفون أن النمُّور جائعة. دعنا نضيف على ما قاله تشرشل بأنُ النمور الجائعة في بلاد العرب قد أصبحت الشعوب الثائرة وأنها ستأكل راكبيها.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.