د / يوسف مكي
في المقال السابق، تناولنا المناخات الفكرية، التي نشأت في ظلها الثورة الفلسطينية، التي انطلقت بقيادة حركة التحرير الفلسطينية – فتح في الأول من يناير/ كانون الثاني العام 1965م، وقد هدفت القراءة السابقة، إلى التمهيد لمناقشة تأثر تلك المناخات، في البنية الفكرية لحركة المقاومة، ولاحقاً لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي غدت حركات المقاومة جزءاً منها، وتحت مظلتها.
أولى الحقائق، ذات الصلة بتلك المناخات، أن معظم حركات المقاومة، هي امتداد في منطلقاتها الفكرية، للأحزاب والحركات العربية السائدة آنذاك، وبشكل خاص في مشرق الوطن العربي. وقد تسربت معظم قيادات حركة المقاومة من تلك الأحزاب والحركات.
وثانية تلك الحقائق، أن حركة المقاومة الفلسطينية، وبخلاف معظم حركات التحرر الوطنية في العالم، نشأت بالمنافي، ولكنها تأثرت في أطروحاتها، بحتمية الانتصار، إذا ما اعتمدت طريق الكفاح المسلح. وقد تأثرت إلى حد بعيد، في النماذج الكوبية والجزائرية والفيتنامية. وكان لذلك تأثير كبير، في هيكليتها وبنيتها الفكرية.
إن انطلاقتها بالمنافي، يعني أن حاضنتها الاجتماعية، ليست جمهورها الفلسطيني، الذي يستهدف الكفاح لتحقيق تطلعاته في الحرية والانعتاق، بل الجمهور العربي، في لبنان والأردن وسورية. وتلك فرادة أخرى للنضال الفلسطيني. هذه الفرادة، شكلت من جهة تلاحماً للنضال الفلسطيني، بالنضال القومي، وعززت مقولة إن فلسطين، هي القضية المركزية للعرب جميعاً، لكنها من جهة أخرى، جعلت النضال الفلسطيني أسيراً للمواقف العربية، تجاه القضية الفلسطينية.
لم تكن في هذه الفرادة، معضلة قبل نكسة الخامس من يونيو/ حزيران عام 1967م، ذلك أن المزاج الشعبي والرسمي، العربيين، حتى تلك اللحظة كانا يعتبران المشروع الصهيوني، عدواناً على الأمة العربية، لا يمكن القبول به. وأن المعركة مع كيانه الغاصب، هي معركة وجود.
باستثناءات محدودة جداً، لم يكن الكيان الصهيوني، قد ضم حتى تاريخه، أراضي عربية، خارج فلسطين التاريخية. فلم يكن هناك من حاجة للفصل بين الوطني والقومي والفلسطيني. لكن الأمور تغيّرت بشكل جوهري، بعد النكسة، حيث فقدت ثلاث دول عربية، أجزاء كبيرة، من أراضيها، سقطت تحت الاحتلال الصهيوني، ما جعل من المهم التمييز بين تحرير فلسطين، ومطلب تحرير الأراضي العربية التي احتلت حديثاً.
لم يكن هذا التمييز اعتباطياً، بل له علاقة بمنطق السياسة ومتطلباتها، فالأراضي التي اغتصبها الكيان الصهيوني، باتت أرضاً «إسرائيلية»، وقد حظي الكيان الغاصب باعتراف الأسرة الدولية. وتحرير فلسطين، ضمن هذه الرؤية، هو موقف استراتيجي، ليس في الإمكان تحقيقه في لحظة ما بعد النكسة، ضمن المنظور الواقعي، خاصة بعد هزيمة جيوش دول المواجهة العربية. أما الأراضي العربية، التي احتلت حديثاً، فهي بحكم القانون الدولي، واتفاق الدول الدائمة العضوية، في مجلس الأمن الدولي. وقد صدر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 مؤكداً عدم جواز احتلال الأراضي بالقوة المسلحة.
وهكذا، برزت في حينه استراتيجيتان: استراتيجية فلسطينية، تنطلق من تحرير كامل التراب الفلسطيني، وبالكفاح المسلح، واستراتيجية عربية، تقول بالنضال من أجل إزالة آثار العدوان. ورغم ما يبدو من عدم وجود تناقض بين الاستراتيجيتين، لكنهما متناقضان عند وضعهما أمام الواقع العربي والإقليمي.
فإزالة آثار العدوان، هي بالدرجة الأولى عمل سياسي، على الأقل في المرحلة التي أعقبت النكسة مباشرة، لكن ذلك لم يمنع من صدور إشارات عربية، بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة. أما مشروع تحرير فلسطين، فإنه لا يحظى بأي تأييد عالمي. والعرب لم يملكوا مشروع تحرير لفلسطين، منذ نكبتها. ولم يتجرأوا في أي مرحلة على طرح ذلك بشكل جدي.
وحتى حين شكلت القيادة العربية المشتركة في مؤتمر القمة العربي الأول، لم يكن الهدف من ذلك تحرير فلسطين، وإنما الحيلولة دون تمكن «إسرائيل» من تحويل مياه نهر الأردن لصحراء النقب.
إذاً فإن الخلاف هو بين استراتيجيتين، أحدهما ممكن ومعترف به دولياً، والآخر، مؤجل ولا توجد مناخات دولية تسنده. أما نقطة الصدام بين المشروعين، فيختزلها، رغبة الدول التي فقدت أراضيها وهزمت جيوشها، في إعادة بناء جيوشها ضمن استقرار نسبي، وتصميم المقاومة على مواصلة عملياتها ضد العدو، من أجل تحرير فلسطين.
وليس من شك، في أن شهر عسل المقاومة، تحقق بعد النكسة مباشرة، حيث لم يكن بمقدور الدول العربية، وقف عمليات المقاومة آنذاك. لكن هذه الدول، بعد أن استعادت توازنها، ومضت في بناء قوتها العسكرية، رفضت وجود المقاومة الفلسطينية، على أراضيها، تحت منطق رفضها لوجود دولة داخل الدولة. ولم ينتهِ سبتمبر/ أيلول عام 1970، إلا بطرد المقاومة، قيادة وكوادر من الأردن. أما سورية، فإنها منذ عام 1970، رفضت تنفيذ أي عملية عسكرية للمقاومة من أراضيها. ولم يتبقَّ أمام المقاومة سوى لبنان، الهش في تركيبته السياسية والاجتماعية، والذي حمل من التناقضات، وتوازنات القوة ما أتاح للمقاومة اتخاذه مركزاً رئيسياً لها، حتى غزو بيروت، في صيف عام 1982. لقد فقدت المقاومة بسبب هذه الفرادة، قواعدها الآمنة في الأردن وسورية، كما فقدت حواضنها الاجتماعية، في البلدين، ولم يتبقَّ إلا بيروت، المثقلة، بالصراعات الطائفية والسياسية والاجتماعية.
ومن حسن طالع حركة المقاومة، أن النهوض الشعبي في الضفة الغربية قد بدأ منذ عام 1973، لينتقل منذ ذلك التاريخ مركز الجاذبية في الكفاح الفلسطيني، إلى الداخل بدلاً من المنافي. لكن لذلك كلفه الحادة، في التأثير في أهداف واستراتيجيات منظمة التحرير الفلسطينية.
ماذا يعني هذا الانتقال؟ وما تأثيراته في مجرى الكفاح الفلسطيني، وبشكل خاص التغير في الأهداف والاستراتيجيات؟ ذلك ما سنتناوله لقراءة أين تقف الثورة الفلسطينية المعاصرة، بعد واحد وخمسين عاما من انطلاقتها. وسيكون موضوع حديثنا القادم بإذن الله.