حسن خليل غريب
إن الإرهاب هو (أي عمل يهدف إلى ترويع فرد أو جماعة أو دولة بغية تحقيق أهداف لا تجيزها القوانين المحلية أو الدولية). ومن أكثر أنواع الإرهاب فظاظة وفجاجة ووحشية هو الإرهاب الدولي . وجاء وصفنا له بمثل هذه القسوة لأن من أهم واجبات الدول أن تلتزم بالمواثيق الدولية والإنسانية، وعلاقات التكافؤ مع الدول الأخرى، على أن لايجعلنا ذلك ننسى جرائم المجموعات الإرهابية المنفلتة من أية قيود إنسانية وأخلاقية وقانونية.
والإرهاب الدولي هو الذي تمارسه دولة واحدة أو أكثر عن طريق تسخير إمكانياتها الدبلوماسية أو العسكرية لتحقيق هدف سياسي، أو الإستيلاء على مكتسبات أو ثروات غيرها من الدول. ويتخذ اشكالاً عديدة نذكر منها: الضغط الدبلوماسي. أو الحصار الإقتصادي. أو استخدام القوة العسكرية. أو استهداف منشآت البنى التحتية لدول أخرى ذات سيادة. أو القتل المنظم للمدنيين…
فالعدالة في الحكم على أي عمل إرهابي، أكان موجهاً من قبل أفراد أو مجموعات أو دول، تُترجم بمكاييل واحدة، وليس بمكاييل مزدوجة.
وبناء عليه إذ نستنكر العمل الإرهابي الذي قامت به مجموعة أصولية تغطت بعباءة الإسلام ضد مؤسسة إعلامية فرنسية، وهي مؤسسة شارلي إيبدو، فإننا نستنكر أيضاً أي عدوان قامت به، أو ستقوم به أي دولة من دول العالم على أي فرد أو مؤسسة إعلامية أو دولة ذات سيادة.
لكن من غرائب الأمور أن يستنفر العالم كله، وعلى رأسهم زعماء العالم من أقصاه إلى أقصاه، للاحتجاج والشجب والتظاهر والاستنكار لما حصل ضد مؤسسة إعلامية، ولكنه لم يحرك ساكناً ضد من يقوم بتدمير الدول وتكفيك وحدتها، وقتل مواطنيها، وإشعال الحروب الأهلية بين سكانها ومكوناتهم الاجتماعية والدينية والعرقية.
وعن ذلك فقد حفلت أواخر القرن العشرين، وأوائل القرن الواحد والعشرين، بكل أنواع الإرهاب الذي مارسته الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ضد عشرات الدول ففككتها، وأوقعت ملايين القتلى والجرحى من سكانها، شرَّدت عشرات الملايين وانتشروا في أصقاع الأرض كلها يأكلهم الفقر والعوز، ويموتون جوعاً وبرداً ومرضاً في مخيمات اللجوء.
لقد بدأ الإرهاب الغربي جرائمه في يوغوسلافيا، ولم تنته بالعراق، بل هي تمتد وتطول دولاً أخرى في الوطن العربي، يضيفها التحالف الرسمي الغربي إلى أجندة ما يسمونه بـ(الربيع العربي). وهي تحت عناوين شتى منها (نشر الديموقراطية) تارة، و(محاربة الإرهاب) تارة أخرى. بينما هي لا تريد ديموقراطية ولا ترفض الديكتاتورية، وهي التي غذَّت وما تزال تغذي كل مجموعة إرهابية لتقاتل بها كل الأنظمة التي تريد احتواءها وإخضاعها لإرادتها بشكل كامل. وهكذا تمارس الأنظمة الغربية كل مهاراتها بالإرهاب، وهي تُذعن لكل إملاءات الولايات المتحدة الأميركية.
تمر مشاهد المآسي الإنسانية الفظيعة التي تخطط لها دول الرأسمالية الغربية، دون أن يرف للرأي العام فيها جفن، والسبب هو أن أنظمتها الرسمية والمخابراتية هي من صنعها ومن يشارك فيها لتنفيذ مشاريعها الخبيثة في تقسيم الدول والسيطرة على ثرواتها الوطنية.
لقد تكاثرت أصوات الدول الرأسمالية للمشاركة في الاستنكار والشجب والتظاهر في مسيرات مليونية في باريس، ليس محبة بمؤسسة (شارلي إيبدو)، التي ربما خططت لها أجهزة مخابرات غربية، بل هي تشارك لأغراض التغطية على تدخلها في شؤون الدول المطموع بثرواتها أو مواقعها الجغرافية الاستراتيجية تحت ذريعة محاربة الإرهاب. وهي إنما بكت على ضحايا تلك المؤسسة الإعلامية ومهاجمة الإيديولوجية الأصولية لحرف أنظار الرأي العام الدولي عما ترتكبه تلك الدول نفسها من جرائم.
وفي الوقت الذي نسوق فيه هذا الاتهام، نؤكد أن منظومة الدول الرأسمالية تقف إلى جانب مخططات الولايات المتحدة الأميركية للبقاء قوة كبرى تضع كل ثقلها لتحقيق مصالح الطبقات الرأسمالية الأميركية، التي إذا ما تحققت أهدافها فإنها ستكون الحامية لكل غيلان الرأسمالية العالمية.
ولأن للطبقات الرأسمالية الحاكمة في أميركا أيديولوجية خاصة بها، تقوم على أساس أنه ليس من حق أحد أن يحول دون نفاذ مصالحها، بل على الكل أن يأتمر بأوامر تلك الطبقات. ونستطيع أن نفهم طبيعة إرهاب تلك الطبقات باختصار إذا استعدنا إلى الذاكرة تاريخ تكوين الولايات المتحدة الأميركية.
طوال مراحل ذلك التاريخ كانت إيديولوجيا الإرهاب عنصراً أساسياً في تكوين إيديولوجيا تلك الطبقات في الولايات المتحدة الأميركية. ومن أجل أن نبرهن على ذلك سنقوم بإلقاء نظرة سريعة على مراحل تكوينها.
التكوين الإيديولوجي للطبقة الرأسمالية الحاكمة في أميركا يستند إلى اعتبار أن للون الأبيض الأميركي حقاً بحكم كل الألوان المنتشرة على الكرة الأرضية. ومن حقهم وحدهم أن يحكموا في أميركا، كما من حقهم أن يحكموا العالم بأسره. وطوال تاريخهم الذي يقوده (البيت الأبيض) وليس (البيت الأسود، أو الأصفر أو الأحمر)، كانت صفحاته مملوءة بالجرائم والإرهاب.
فما هي طبيعة تكوين إيديولوجيا الجريمة والإرهاب في المفهوم الأميركي؟
تدل طبيعة التكوين الإيديولوجي الأميركي على جملة من الحقائق لا يمكن إغفالها في كل دراسة تتناول هذه القضية أو تلك، هذا الجانب أو ذاك، من جوانب السلوكات الأميركية ضد الخارج الأميركي.
قام النظام الأميركي، منذ تأسيسه، على قاعدة تفوُّق العرق الأبيض. ويمتد خيط من مفاهيم الرجل الأبيض في التعامل مع الأعراق الأخرى عبر التاريخ إلى الوقت الحاضر، هو خيط مفهوم نظرية التميز والتفوق العرقي. وقد انبثق عن ثنائية (العرق الأبيض في مواجهة الأعراق الأخرى)، ثنائية أخرى (السيد والعبد)، فالسيد هو الأميركي الأبيض أما العبد فهو كل شعوب العالم الأخرى. ولأن نظرية السيد تعني «الإنسان المتحضر»، ونظرية العبد تعني «الإنسان المتوحش»، يحق في أعراف «السيد» أن يتخلَّص من «العبد» بأية وسيلة. ولهذا انغرست في الإيديولوجيا الأميركية مفاهيم «إبادة الوحوش» لتخليص البشرية من شرورها، ودافعهم هو وضع ثروات العالم في خدمة «الرجل الأبيض المتحضر». فكانت الولايات المتحدة الأميركية، ومازالت، الدولة «الأشد دموية وعدوانية عبر التاريخ الإنساني كله، منذ أن بدأت تتشكل وحتى الآن، أي منذ إبادة الهنود الحمر إلى العدوان على العراق». وامتلأ تاريخها «بالجرائم المروعة التي لا تريد لها تاريخاً وتوثيقاً بما يكشف للعالم، وللأمريكيين أنفسهم، أن تاريخهم ليس إلا تاريخ إبادة للشعوب والحضارات الأخرى، وكيف أن تقدمهم العلمي والاقتصادي قام على سلب الأمم ثرواتها العلمية والبحثية والاقتصادية».
تواصلت الإيديولوجيا الأميركية، منذ ما يُعرَف بالاستقلال حتى اللحظة الراهنة، بتحديد سياسة الولايات المتحدة الأميركية على النسق ذاته، استناداً إلى ثنائيات (العرق الأبيض والأعراق الأخرى، و(السيد والعبد)، و(الإنسان المتحضر والإنسان المتوحش). واستمرت أيضاً آليات الصراع بين تلك الثنائيات على قاعدة تشريع مبادئ: «إبادة الأعراق الأخرى: العبيد والمتوحشين، رسالة إنسانية وإلهية»، بحيث ارتقى مفهوم الإبادة إلى مفهوم «الاستعباد»، ويعني أنه لأجل تأمين اليد العاملة التي تخدم «الإنسان المتحضر» تسمح الإيديولوجيا الأميركية باسترقاق الأعراق الأخرى لوضعهم في خدمة الأسياد البيض. وتستند تلك المفاهيم إلى عمق تاريخي سادت فيه «نظرية ترويض العبيد» التي احتلَّت حيزاً واسعاً من تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، وتعود أصولها إلى بداية (النهضة الأمريكية) التي قامت «على جثث ودماء وجهود الأفارقة الذين تم اصطيادهم مثل الحيوانات من الغابات والمنازل، أو تمَّ شراؤهم من الأسواق». وهي بالإجمال «قضية وجود مفهوم نظري، يرى فيه الأمريكي أن من حقه إبادة الشعوب الأخرى، واسترقاقها وتخويفها وإرهابها، باعتباره (رجل ابيض) متفوق حضارياً على الآخرين». ليست تلك الإيديولوجيا إلاَّ مثار فخر وتباهي، عند الأميركيين، بالوحشية والدموية.
نقلاً عن الأستاذ منير العكش الباحث في علوم الإنسانيات في كتابه (أمريكا والإبادات الجماعية)، يأتي بالشواهد التاريخية التالية:
وليم برادفورد حاكم مستعمرة بليتموت، الذي استخدم كل أنواع الأوبئة للقضاء على الهنود الحمر، يقول: «إن نشر هذه الأوبئة بين الهنود عمل يدخل السرور والبهجة على قلب الله، ويفرحه أن تزور هؤلاء الهنود وأنت تحمل إليهم الأمراض والموت، وهكذا يموت 950 هندياً من كل ألف، وينتن بعضهم فوق الأرض دون أن يجد من يدفنه. إنه على المؤمنين أن يشكروا الله على فضله هذا ونعمته».
وفي العام 1855 قال أحد أشهر الأطباء الأميركيين: «إن إبادة الهنود الحمر هو الحل الضروري للحيلولة دون تلوث العرق الأبيض. وإن إصطيادهم إصطياد الوحوش في الغابات مهمة أخلاقية لازمة لكي يبقى الإنسان الأبيض فعلاً على صورة الله».
وفي السياق نفسه (فرانسيس ياركين)، أشهر مؤرخ أمريكي في عصره، يقول: «إن الهندى نفسه في الواقع هو المسئول عن الدمار الذي لحق به لأنه لم يتعلم الحضارة ولابد له من الزوال».
كما أن الرئيس أندره جاكسون الذي تزين صورته ورقة العشرين دولاراً، «من عشاق التمثيل بالجثث، وكان يأمر بحساب عدد قتلاه بإحصاء أنوفهم المجدوعة وآذانهم المضمومة، وقد رعى بنفسه حفلة التمثيل بالجثث لـ 800 هندياً يتقدمهم الزعيم (مسكوجى)، وقام بهذه المذبحة القائد الأمريكي جون شفنغنتون وهو من أعظم أبطال التاريخ الأمريكي وهناك الآن أكثر من مدينة وموقع تاريخي تخليداً لذكره ولشعاره الشهير «اقتلوا الهنود واسلخوا جلودهم، لا تتركوا صغيراً أو كبيراً، فالقمل لا يفقس إلا من بيوض القمل».
وتذكر بعض التقارير على أن «أبوات الرأسمالية الأميركية» قد جنوا ثرواتهم على جماجم الشعوب، وعلى أنهار من الدماء. وقد جاء نقلاً عن محمد حسنين هيكل في مقالته «مهمة تفتيش في الضمير الأمريكي» جاء فيها أن جون روكفللر حصل على غنى أسطوري من إبادة قبائل بأكملها في فنزويلا كي يسيطر على حقول بترول تأكد له وجودها، واستحق أن يوصف بأنه أسال دماء على سطح فنزويلا بأكثر مما استخرج من عمق آبارها نفطاً.
إن القيام بارتكاب أعتى الجرائم، وأشدها دموية في تاريخ البشرية، لا يعنى أبداً التبجح بها، وإنما يعنى بالقدرة ذاتها على ارتكابها، وتتوفر آلة إعلامية كاذبة ومخادعة للتغطية عليها، وتصويرها على أنها «أعمال إنسانية متحضرة» ضد بدائيين، كما كان الحال في الزمن القديم، أو ضد أناس يقفون ضد المبادئ الإنسانية، من إرهابيين وديكتاتوريين أو حتى معادين لحقوق المرأة والطفل. فهو يُغلِّف جرائمه بعُدَّة عمل إعلامية تظهرها بأنها شرعية وأخلاقية، بل واجب إنساني، وإلهي أحياناً. وهناك مبادئ إعلامية عشر يطبقها الإعلام الأميركي والنقاط العشر هي:
1- نحن لا نريد الحرب.
2- المعسكر المعادى هو المسئول عن الحرب.
3- ورئيسه بمثابة الشيطان.
4- ما ندافع عنه شيء نبيل.
5- العدو يقوم بالأعمال الوحشية وإذا اضطررنا إلى ارتكاب بعض التجاوزات فإنما سيكون عن غير قصد.
6- العدو يستخدم أسلحة محظورة.
7- خسائرنا قليلة مقارنة مع خسائر العدو.
8- جميع المثقفين والفنانين يؤيدون الحرب.
9- كل الذين يشككون في حملتنا خونة.
10- قضيتنا تحمل طابعا مقدساً.
لم تقتصر الإيديولوجيا الأميركية على تُراث تاريخي طويل، وإنما عقد تحالفات مع ما يسميه (فرانك براوننغ) في كتابه (الجريمة على الطريقة الأمريكية) بـ«السلطة السادسة». وهي ليست إلاَّ تلك التي يمارسها عالم محترفي إجرام يعملون في خدمة الصناعيين والسياسيين من غير الشرفاء. وإن الأفراد الذين ينتهكون القانون، يعرفون أن باستطاعتهم الاعتماد على حماية (المنظمة)، وعلى ضمان أموالها. إن (السلطة السادسة) تستعلي على تحالفات الطبقات وعلى الصداقات السياسية التقليدية… وهي تلك الجريمة المتمأسسة. ووظيفتها ليست إفساد القوى الاجتماعية الأخرى وحسب، بل إنها تؤلف سلطة مستقلة تقاوم السلطات الأخرى أيضاً.
ولكل هذه الأسباب لا يمكن لتاريخ الجريمة في الولايات المتحدة إلاّ أن يكون تاريخ الولايات المتحدة الذيتنتشر فيه مغامرات الخارج على القانون، وقاطع الطريق والمتمرد والمبتز. وقد وظّف الساسة الأميركيون كل النظريات التي يطلقها الموتورون في العالم، بعد أن أسبغوا عليها مسحة أمريكية ووضعوها في قوالب مقننة أنتجت سيلاً من الجرائم. وليست تلك السلطة إلاَّ سلطة عصابات المافيا في نيويورك.
وأخيراً، وبعد إلقاء ضوء موجز على طبيعة إيديولوجيا الإرهاب الأميركي.
وبعد ارتكابه كل وسائل الإجرام والإرهاب في أكثر الدول النامية، ومنها دول كثيرة في وطننا العربي.
نتوجه بالسؤال إلى الرأي العام العالمي، ومنه الرأي العام الفرنسي خاصة: كيف يسمحون لأي فرد أميركي يؤمن بممارسة الإرهاب من أجل مصلحة الرجل الأبيض، أن يشارك في استنكار عمل مجموعة إرهابية قامت بجريمتها من دون مبرر إنساني أو أخلاقي أو ديني؟
إن مشاركة هؤلاء، باستنكار عمل إرهابي محدود في باريس، وهم يرتكبون الجرائم بالآلاف، بل عشرات الآلاف، بحق عشرات الملايين من البشر، بدءاً بقضية فلسطين، مروراً بليبيا وسورية واليمن وانتهاء بالعراق… ولا يجد من يرفع بوجهه إصبع الاتهام ضد جريمة واحدة.
إن الواجب الأخلاقي يلزم الرأي العام العالمي كله بأن يقدم أمام محكمة واحدة كل المجموعات الإرهابية المماثلة، جنباً إلى جنب كل المسؤولين في النظام الرسمي الأميركي. وإجراء محاكمة عادلة لهم بعيداً عن ازدواجية المعايير، وإنزال أقصى العقاب بكل من يثبت مشاركته في عمل إرهابي مهما كان حجمه.