ثمة في حياة ومسيرة الفقيد محمد عابد الجابري ما يذكّر بمسيرة وحياة الراحل ميشال عفلق، فالاثنان من أصحاب المشاريع الكبرى، وجاءَ(ا) إلى العروبة والإسلام من جهة غير متوقعة، الأول جاءها من أصول أمازيغية غير عربية، والثاني جاءها من أصول دينية مسيحية ليحكم ربطها بالإسلام، دينا وتاريخا وتراثا وحضارة.
وكما هو معلوم فإن الحضارة الإسلامية تتألف من خمس قوميات أساسية: العربية والتركية والفارسية ثم الكردية والبربرية، التي يفضّل أهلها تسمية الأمازيغية التي أطلقها أسلافهم البعيدون على أنفسهم، وهي تعني الشعب الحرّ أو شعب الأحرار، في حين أن تسمية البربر أطلقها عليهم أعداؤهم من إغريق ورومان على سبيل الإشانة لوصمهم بالهمجية، وإقصائهم من الحضارة، ذلك دون أن ننسى قصيدة ريتسوس اليوناني المصري المعاصر» في غياب البرابرة».
كما أن الحضارة الإسلامية شارك في إرساء دعائمها والبلوغ بها إلى السيادة والإشعاع في زمنها اليهود والمسيحيون والصابئة وغيرهم من أصحاب الديانات التوحيدية والوثنية، الذين انتموا إليها طوع إرادتهم، وإن ظلّوا محافظين على معتقداتهم الدينية.
ينحدر ميشال عفلق (1910ـ 1989) من عائلة دمشقية تدين بالأرثوذكسية المسيحية. أسس في بداية الأربعينات من القرن الماضي جماعة سياسية منظمة باسم «الإحياء العربي».
ويعدُّ عفلق عميد حزب البعث وزعيمه الروحي ومنظره الكبير، كما أنه أحد مؤسسيه في 7 أفريل عام 1947، ليدمج حزب البعث سنة 1952 مع الحزب الاشتراكي ليصبح «حزب البعث العربي الاشتراكي». ومن مؤلفات «الأستاذ»، كما يحبّ أنصاره ومعتنقي أفكاره مناداته، كتابه «في سبيل البعث» بأجزائه الخمسة.
ومن أهم ما يُقرأ في ذلك الكتاب المرجعي لبعض القوميين العرب، مقالا كتب سنة 1942 بعنوان: «في ذكرى الرسول العربي»، وهو مقال على درجة عالية وممتازة من العمق والشاعرية والتوهج في استبطان تجربة النبوة المحمدية ورسالتها الخالدة، لا يمكن أن يصدر إلاّ عن شخص تمثّل تمثلا جوهريا، وأحاط إحاطة شاملة بكنه السيرة المحمدية، وتلقى بتسليم رسالتها الإلهية، التي توقّدت في فؤاده وأفصح عنها لسانه، وهنا لا يهمُّ إن كان ميشال عفلق قد أعلن إسلامه قبل موته، كما روّج لذلك أتباعه، أو مات على مسيحيته كما يؤكد ذلك المقربون من أهله، فليس مهمًّا للدين من ينتسبون إليه، بل المهم من يعملون لأجله ولأجل فاعليته في التاريخ ورفعته في النفوس وبين الرسالات. ولا نفوّت هنا سانحة انتخاب جملة من فقرة من ذلك المقال الفذّ: «… في وقت مضى تلخصت في رجل واحد حياة أمته كلها، واليوم يجب أن تصبح كل حياة هذه الأمة في نهضتها الجديدة تفصيلا لحياة رجلها العظيم. كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمدا».
أما عن الجابري فلم تضلله أصوله العرقية الأمازيغية عن الانخراط في هويته العربية الإسلامية، وكان يعتبر أن «مشاكل الأمازيغ المغاربة هي مع التنمية، وليست مع اللغة أو الهويّة»، وذلك لكي يعيد الأمور إلى نصابها بصفته مفكرا عربيا حداثيا إسلاميا إنسانيا من طراز فريد رفيع، يستأنف الاجتهاد والتجديد، على غرار أسلافه الأمازيغ الكبار الذي ساهموا، كما يقول خالد شوكات التونسي الأمازيغي «في صياغة وتطوير اللغة العربية المتواصلة إلى اليوم، فلسان العرب الذي هو موسوعة لغة الضاد الأولى من تأليف عالم لغوي أمازيغي هو ابن منظور القفصي التونسي، وألفية ابن مالك التي أوجزت، كما لم يفعل مصنف قبلها قواعد العربية، هي من تأليف ابن مالك الأندلسي الأمازيغي»، وكذلك شأن الشيخ ابن باديس أحد زعماء الثوة الجزائرية، القائل بأن «أرض الجزائر مسلمة وإلى العروبة تنتمي»، وهو من أصل أمازيغي قبائلي، وأيضا محمد بن عبد الكريم الخطابي، قائد ثورة الريف الأمازيغي، الذي يقال أنه أول من أطلق صفة العروبة على بلاد المغرب.
ويعدّ الجابري، حسب موسوعة ويكيبيديا، من رموز التيار العروبي القومي، ويقترن اسمه بخير الدين حسيب، وعزمي بشارة، وعبد الوهاب المسيري، وعبد العزيز الدوري، وبرهان غليون، وعصمت سيف الدولة…
طبعا، كان تفكير ومؤلفات ومواقف محمد عابد الجابري محلّ تنديد ومناهضة من قبل متشددي العرقية الأمازيغية أعداء العروبة، ومن ذلك ما رافق نبأ موته من تعليقات على النات، ومنها: «توفي المفكر المغربي عبيد الجبري (كذا!)… وبهذا تفقد العروبة ركيزة من ركائزها بشمال إفريقيا، وعرف عبيد الجابري بشدّة عدائه للغة والثقافة الأمازيغية حيث دعا إلى مخطط من أجل موت الأمازيغية، إلا أنه مات هو قبل موت الأمازيغية…» ودوّن آخر: «(اذكروا موتاكم بخير) هل تصح مع هذا الإستئصالي المسمّى مجاملة بالمفكر، إلى الجحيم يا عرّاب العرب في المغرب الأمازيغي تاريخيا…»
ومن هنا تحديدا نفهم مصطلح الجابري في الثقافة العالمة والثقافة العامة، فقد رغب بوعي ثاقب أن لا يندرج في الثقافة العامة، وأن ينخرط في الثقافة العالمة، ثقافة العربية التي بإمكانها أن تجرّد وتتجرّد من الأهواء والأوهام والعرقيات والأصوليات.
مفكران منظران يأتيان من أفقين معرفيين ودينيين وعرقيين مختلفين ليجودا بروح إبداعية في كيان عروبة شديدة الظمأ، وإسلام يخيّم عليه شبح ظلام المتطرفين، يتنكر لهما الأبناء الجاحدون، فيشهد الجابري الأمازيغي ويشهد عفلق المسيحي، أن العربية هي إسلامها، والإسلام عربية ممكنة، وأن ثمة ما يعيد الثقة ويفتح بوارق الأمل للعربية من حيث لا نتوقع ولا ننتظر، بصفة أن العربية هي لسان وليست دَيْنا ولا قبيلة ولا تحزّبا ولا قوما. إنما هي أفق وأمل وعقلانية تنقذُ العقل حين تنقدُه.
جاء في تعزية الملك المغربي محمد السادس لعائلة الجابري تعبيره عن صادق مواساته: «في رحيل أحد كبار المفكرين المغاربة، الذين كانوا نموذجا عاليا في العصامية والجدية والاستقامة، والعطاء الفكري المتنوّر، المتميّز بترسيخ منهج العقلانية…»
رحم الله الجابري بروح القرآن الذي عمل في آخر حياته على النظر فيه نظرا جديدا.