هل أصبحت دول البترول العربية، وبالأخص في منطقة الخليج العربي، عبئاً على الأمة العربية بدلاً من أن تكون إحدى الرافعات لنهضة الأمة؟ هذا سؤال كبير ومتشعٍّب. لذلك دعنا نضع جانباً إشكالات الجوانب السياسية والاقتصادية، والتعامل الخاطئ في كليهما، ولنأخذ كمثل يبيٍّن ما نعنيه الجانبين الثقافي والاجتماعي.
إن الممارسات الاجتماعية والثقافية، وأحياناً المبتذلة، في مجتمعات اليسر والبذخ البترولي قد أصبحت حديث العــالم كلٍه. فالشباب في هذه المجتمعات يتباهى، بابتذال مفتعل، باقتنائه لأفخم وأغلى السيارات، وبأرقامها المتميٍّزة التي ترمز للوجاهة الاجتماعية. وموضات الملابس وساعات اليد في هذه البلدان أصبحت تضاهي صرخات العالم في تنوٌّعها وتبدلها الموسمي وإضافات الفخامة عليها. وهناك إحصائيات تدل على أن المرأة البترولية تصرف على عطورها أضعاف ما تصرفه إمرأة اليسر الغربي والشرقي على السًّواء. وأما التنافس على اقتناء أرقام الهواتف النقالة البالغة التميُّز وشرائها بأسعار خيالية، أوعلى اقتناء ناقة تبٌز في جمالها وتناسقها كثيراً من النساء، أو التنافس بين البعض المسؤولين الكبار على أحجام وتميٌّزات اليخوت والطائرات الخاصة والقصور.. فقد وصل إلى مراحل الاسراف الاستهلاكي فيما لا يدلً إلاُ على ضحالة الفكر وطفولية المشاعر.
والخلق الذي يسقط صريع تلك المظاهر الاستهلاكية لا يمكن إلاٌ أن يسقط صريع العادات الاجتماعية المصاحبة لها. من هنا بذخ الصٌّرف الجنوني على حفلات الزواج ومناسبات الأعياد أو اقتناء مساكن فخمة في عدُّة مدن ومصايف وشواطئ دون السكن فيها إلاُ نادراً. من هنا التفاخر بعدد المغامرات الجنسية والصُّرف المبتذل على فتيات الهوى، بل من هنا وصول بعض المدن إلى مراحل إيوائها لكل رذيلة. من هنا الاستهتار بأنظمة السُّير وأنظمة الجلوس في الأماكن العامة.
وبالطبع في هذا الجو المادي الحسٍّي الغريزي البحت تثور براكين الفساد الذممي والمالي والوظيفي في أدنى المستويات وأعلاها من المؤسسات العامة والخاصة. وكذلك تسود بيروقراطية المحسوبية والاستزلام والزبونية وضعف الالتزام بأخلاقه وأنظمة العمل.
ولايحتاج الإنسان إلى أن يستطرد أكثر، فالبلاء كبير ويشاهده الإنسان في ألف صورة وصورة ووراء ألف قناع وقناع. وما كان لذلك التشوُّّه الثقافي والاجتماعي ليقلقنا كثيراً، إذ أن مجتمعات اليسر البترولية هي ظاهرة مؤقًّتة ستنتهي بنهاية حقبة البترول التي لن تطول، لولا أن ذلك التشًّوه قد انتشر إلى كل الأرض العربية، وعلى الأخص بين الطبقات الموسرة المتحكمة في الثروات المجتمعية في تلك الأرض. ولا تسلم عاصمة عربية، حتى في أفقر البلدان العربية، من وجود جيوب مشابهة بالضبط لما تعيشه مدن الرفاه البترولية. فأفراد الطبقات الموسرة في مدن البلدان العربية غير البترولية قد نجحوا في محاكاة تلك العادات والطٍّباع المشوًّهة، بل وزادوها ابتذالاً وانحطاطاً وأصبح أفراد تلك الطبقات من المصريين والسوريين واللبنانيين والمغاربة والسودانيين وغيرهم لايختلفون في تصٌّرفاتهم الاستهلاكية والمظهرية والتنافسية عن الكويتيين أو البحرينيين والسعوديين أو الإماراتيين وغيرهم.
وهكذا، وبدلاً من استعمال الثروات المحدودة في بلدان العرب غير النفطية في بناء التنمية في تلك البلدان، فانها تستعمل من قبل ناهبي وسُّراق الثروات في التماثيل مع أغنياء ومترفي بلدان البترول. وهكذا ساهمت البلدان البترولية، عن قصد أو غير قصد، في تشويه العادات والتصرفات الاجتماعية والثقافية في كل الوطن العربي. ولما كان الوطن العربي يعيش محن الإحتلال الاستعماري، ومخاطر البربرية الصهيونية، ومحن التجزئة والتخلف الاقتصادي والجمود الثقافي والتسلٌّط الاستبدادي، فان آخر ما كان يحتاجه هو أن إنسانه يعيش هذا التشوٌّه المفزع ليصبح إنساناً بلا ارادة وبلا قيم وبلا جديُة، وبالتالي إنساناً غير قادر على إحداث النهضة التي طال أمد انتظارها.
من هنا فان هذا العبء الاجتماعي والثقافي لمجتمعات اليسر البترولي يساهم في تقوية وترسيخ العبء السياسي والاقتصادي الذي بدوره أصبح أحد كوابيس الحياة لهذه الأمة.