على الرغم من اعلان الشيخ اسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة مسؤوليته عن الهجوم الذي استهدف برجي التجارة العالمية ووزارة الدفاع الامريكية في الحادي عشر من سبتمبر ايلول 2001، وكذلك شروحاته حول اسبابه ودواعيه والاهداف المتوخاة منه، فان الخلافات حول الجهة التي قامت بهذا الهجوم لازالت قائمة لحد يومنا هذا، في حين اجمع معظم المحللون السياسيون والخبراء العسكريون وخاصة المعنيين بالتحولات التاريخية الكبرى، على ان هذا الحدث قد خلق عالما اخر كان من ابرز سماته سقوط معادلة التوازن في العلاقات الدولية وتفرد الولايات المتحدة الامريكية بقيادته واخضاع دوله لارادتها ومشيئتها. حيث استغل بوش هذه النكبة التي حلت بامريكا لابتزاز دول العالم واجبارها على القبول بسياسته العدوانية تحت ذريعة الدفاع عن النفس وحق امريكا باستعادة هيبتها بعد تحطيم رموز قوتها الاقتصادية والعسكرية تمهيدا لبناء المشروع الامبراطوري الامريكي الكوني المعد سلفا وعلى وجه التحديد منذ استلامه رئاسة الولايات المتحدة الامريكية.
ليس غريبا والحالة هذه ان يسارع بوش بتنفيذ مخططه وبوسائل عدوانية وهمجية غير مسبوقة دون الرجوع الى الامم المتحدة ومجلس امنها او مراعاة اعرافها ومواثيقها الدولية. وكان ابرز هذه الوسائل اللجوء الى القوة العسكرية لاحتلال البلدان المستهدفة وفي مقدمتها بالطبع العراق باعتباره الحلقة المركزية في بناء المشروع الامبراطوري، وقد وفر لنفسه اضافة الى ذلك شروط استخدام القوة او الحرب كوسيلة ضرورية، واولها كسب الشعب الامريكي الى جانبه مستفيدا من روح الانتقام التي تولدت لديه جراء شعوره بالاهانة والذعر وثانيها نجاح الاعلام الامريكي اضافة الى اكاذيب اقطاب الادارة الامريكية في توفير الذرائع والحجج حول خطورة البلدان المستهدفة وثالثها توفر القوة العسكرية والمادية الكفيلة بتحقيق الاهداف المرجوة.
لكن الاغرب من ذلك والذي لا يمكن للمرء تخيله تغليف هذه السياسة بشعارات تنطوي على استهتار لامعقول بدول العالم وشعوبه، ونقصد بذلك تلك الشعارات التي طرحها بوش كمبرر لشن عدوانه العسكري على اي بلد يختاره ومنح الحق لنفسه، دون غيره، بان يكون الخصم والحكم في نفس الوقت، وكان من بين اهم هذه الشعارات: شعار من ليس معنا فهو ضدنا وكان الآخر الضربات الاستباقية وتعني حسب أقطاب الإدارة الأمريكية، أن من حق الولايات المتحدة أن تهاجم أية دولة تعتقد أنها تشكل خطراً عليها من دون الرجوع إلى مجلس الأمن أو الأمم المتحدة. أما شعار الحرب الوقائية فله مفهوم ابعد واخطر، وصفه أو فسره الكاتب الأمريكي الليبرالي المعروف (نعوم تشومسكي) بقوله أن مبدأ الاستباقية تحول إلى مبدأ الوقائية. وهذا يعني أن من حق أمريكا أن تشن حرباً على أي دولة تهدد أمنها ولو بعد عدة سنوات ويأتي دور أو مبدأ تغيير العقيدة النووية من عقيدة دفاعية إلى عقيدة هجومية، ووضع (بوش) قائمة بأسماء الدول المشمولة بهجوم نووي محتمل هي روسيا والصين وكوريا الشمالية وايران والعراق وسورية وليبيا. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار بان أمريكا قد وضعت نفسها الخصم والحكم وان الأمم المتحدة ومجلس الأمن قد دخلا متحف التاريخ، فان العالم كله سيصبح مهدداً وتصبح كل دولة فيه عرضه لهجوم أمريكي إذا ما تم توجيه تهمة الخطر على الأمن القومي الأمريكي إليها..
ولكي تكون يد بوش طليقة في كل الاتجاهات فقد خرجت امريكا، من جانب واحد، من اكثر من ثلاثين معاهدة واتفاقية أبرزها معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية والبيولوجية ومعاهدة كيوتو الخاصة بالبيئة الخ وعلى هذا الأساس شرع ببناء جدار الصواريخ النووية العابرة للقارات وسط احتجاجات دولية وشعبية واسعة. لقد وصف جون لوكاروهو اشهر روائي بريطاني معاصر هذا التوجه بان امريكا دخلت مرحلة جنون تاريخي اسوأ من المكارثية واسوأ من خليج الخنازير واشد همجية من حرب فيتنام
وفق هذه الشعارات شرع بوش بوضع مخططه العدواني موضع التنفيذ، وكانت البداية احتلال افغانستان ثم العراق ليعلن بعدها بان امريكا اصبحت القائد الفعلي للعالم الجديد وعلى الاخرين السمع والطاعة، وفعلا اندفعت الدول الكبيرة قبل الصغيرة الى التسابق في كسب ود بوش والتذلل له لكسب رضاه. ترى الا يطرح مثل هذا المآل تساؤلات مشروعة حول السبل والوسائل التي تمكن الشعوب، بعد استسلام انظمتها الى سيد البيت الابيض، من التصدي لهذا الوحش المتغول او حتى حماية نفسها منه؟
فيما مضى وحين كان العالم محكوما بمعادلة دولية متوازنة وكان للمنظمات والتحالفات الاقليمية وزنها وفعلها وللهيئات الدولية ومنها الامم المتحدة نوع من الهيبة والاحترام والقدرة المتواضعة على الفعل، تمكنت الدول والشعوب الضعيفة في ظل هذه المعادلات المتوازنة حماية نفسها تجاه السياسات العدوانية للدول الامبريالية وخاصة الولايات المتحدة، ناهيك عن قدرة حركات التحرر العربية والعالمية على توفير الحماية لنفسها من التعدي على ثوابتها الوطنية والقومية والاستعداد للقتال من اجلها. اما عالم ما بعد 11 ايلول الذي اسقط كل هذه المعادلات فقد وضع الدول والشعوب المستهدفة امام خيار واحد وحيد لضمان ديمومتها ضمن خارطة العالم بالخضوع للهيمنة الامريكية واملاءاتها، واما الشعوب التي ترفض الاملاءات الامريكية وتواصل الحفاظ على التمسك بثوابتها الوطنية وصون كرامتها، فليس امامها من طريق سوى المقاومة الشعبية بكل اشكالها بما فيها الكفاح المسلح لمواجهة السياسة العدوانية الامريكية وغطرستها..
لا نجادل بان المقاومة الشعبية اصبحت خيارا صعبا في ظل عالم بوش واستسلام حكامه وامرائه للقائد الجديد الذي لا يرحم وانكفاء حركات التحرر في العالم قاطبة وتراجع شعار المقاومة كخيار مشروع الى الخلف. غير ان الشعب العراقي رفض الاستسلام للامر الواقع وتقدم متحديا كل هذه الظروف الصعبة وقبل المنازلة مع اكبر قوة عسكرية عرفها التاريخ، فنهضت المقاومة الوطنية العراقية المسلحة لتلقن هذه القوة الغاشمة درسا قاسيا وتضعها في مأزق يصعب عليها الخروج منه.
لكن هذا ليس كل شيء، وهنا بيت القصيد، فالمقاومة العراقية ادركت بان هدفها في مواجهة امريكا وعالمها الجديد لن يكون محصورا بتحرير العراق، وانما يتعداه لتحرير شعوب العالم اجمع. اي ان فعل المقاومة العراقية اتسم ببعد عالمي، فهزيمة القوات الامريكية المحتلة في العراق ستشكل هزيمة للمشروع الامبراطوري الامريكي ولتعود امريكا الى سابق عهدها قوة عظمى من بين قوى اخرى مماثلة، الامر الذي سيشجع شعوب العالم لرفض الهيمنة الامريكية والتحكم بمقدراتها. وبمعنى اخر فان طبيعة الصراع وتداعياته وكونه لا يخص العراق وحده وانما سيشمل دول المنطقة والعالم. ان احتلال العراق ليس حدثا عاديا سيكتب في زوايا صفحات التاريخ بحروف صغيرة، وعندما اصبح العالم عالمان بعد احداث 11 ايلول اي عالم ما قبل ايلول وعالم ما بعده، فان احتلال العراق ونهوض المقاومة العراقية بكل اشكالها سيشكل فاصلا مميزا بين عالم ما بعد ايلول وعالم ما بعد نهوض المقاومة العراقية.
صحيح ان المقاومة العراقية لم تتمكن بعد من الحاق الهزيمة النهائية بقوات الاحتلال لكن ثمار صراعها ضد امريكا تسير باتجاه النضوج، بل ان بعضها نضج على المستوى العالمي، فبالإضافة الى عدم قدرة امريكا على تحقيق مشروعها الكوني وتعطل خطواتها الاولية وتخليها عن مشروع الشرق الاوسط الكبير وتقليصه الى مشروع شرق اوسط جديد ثم صغير لينتهي الى دول ستة او سبعة من دول المنطقة الضعيفة، في حين حدت المقاومة، وبشكل كبير، من قدرة الولايات المتحدة على خوض حربين في ان واحد، الامر الذي شجع العديد من دول العالم حتى الضعيفة منها على تحدي امريكا ورد الصاع صاعين لها ونجد نموذجا عنه في تمرد الدول التي كانت في السابق تشكل الحديقة الخلفية للولايات المتحدة ونعني بها دول امريكا اللاتينية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد طرد رئيس فنزويلا وبوليفيا السفير الامريكي من بلديهما، وفي هذا السياق يدخل احتلال روسيا لاوسيتيا وابخازيا، بل ان حلفاء امريكا تحولوا من اجراء الى شركاء في تقاسم المغانم معها كايران وبعض دول اوربا الغربية، ناهيك عن تساقط عملائها في الانتخابات التي جرت في دول امريكا اللاتينة لصالح ممثلي شعوبهم والقائمة بهذا الخصوص طويلة ومشرقة.
ان ما حققته المقاومة من انتصارات ضد قوات الاحتلال يعد درسا مهما لشعوب الارض كافة، حيث اكدت على ان ارادة الشعوب على تحقيق الانتصار هي اقوى من كل الاسلحة العسكرية والسياسية والاقتصادية والاعلامية وغير ذلك، الامر الذي اعاد للشعوب المضطهدة ثقتها بنفسها وبقدراتها، مهما كانت ضعيفة، على الدفاع عن نفسها واستعادة حقوقها كاملة غير منقوصة، بمعنى اخر فان خشية الشعوب من استخدام المقاومة كطريق للدفاع عن حقوقها المشروعة قد زالت بفضل المقاومة العراقية، الامر الذي سيؤدي حتما الى امتداد لهيب المقاومة الى اكثر من بلد تمهيدا لتشكيل عالم اخر قادر على الوقوف بوجه العالم "الجديد" بكل سياساته العدوانية واسلحته الفتاكة.
وستكون الضربة القاضية التي ستوجهها المقاومة العراقية حين تتمكن من تحرير العراق وطرد القوات الامريكية من ارضه مما سيؤدي حتما الى انكفاء امريكا الى داخلها كدولة عظمى مثل بقية الدول العظمى الاخرى بل ستصبح اقل شانا منها. لقد توقع ذلك بول كيندي، أستاذ التاريخ البريطاني ومؤلف كتاب بروز وانهيار الدول العظمى حين قال: إن يوم الثلاثاء الحادي عشر من أيلول 2001 يعتبر نقطة فاصلة في تاريخ الولايات المتحدة ونهاية اعتبارها قوه عظمى وحيدة تهيمن على النظام العالمي. في حين اكد في مكان اخر قبل بدء العدوان على العراق واحتلاله بان امريكا ستؤتى بالسلاح الذي لا تتوقعه. ان اسلحة بسيطة وبدائية ربما تؤدي الى سقوط القوة الامريكية. وها هي امريكا وقد وصلت الى هذه الحالة بعد ان فقدت اهم عنصرين تمكن الدولة العظمى لتصبح امبراطورية كونية، وهما القوة العسكرية والقدرة الاقتصادية، وها هي قوتها العسكرية تهزم على ارض العراق، وها هو اقتصادها ينهار حين واجهت "وول ستريت" قبل ايام واحدة من أسوء موجة بيع في تاريخها، على خلفية أنباء انهيار رابع المؤسسات المصرفية في الولايات المتحدة الأمريكية، بنك ليمان براذرز، وكذلك شراء "بنك أمريكا" مؤسسة "ميريل لنش" بمبلغ 50 مليار دولار.
ازعم ان شعوب الارض كافة تتطلع الى اليوم الذي ستحقق فيه المقاومة العراقية هدفها وتلحق الهزيمة النكراء باكبر قوة عرفها التاريخ، لتنقض هي الاخرى على الاسد الجريح.