يعقوب سيادي
هي ليست الصورة الأخيرة، وإنما عَمَّدنا أبرزها وضوحاً، في مقالاتنا وهذه الرابعة، لنفرغ للوقائع المواطنية والإنسانية الأخرى، ووجوب علاجها، إلا أن هذه الصور المتعددة تتبلور في الصورة الجامعة الأكبر، وهي مدلولات تراجع الدولة وفقدها دورها في إدارة المجتمع، بما يحفظ للجميع حقوقهم، وتكليف الجميع واجباتهم، «… لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة» المادة 18 من الدستور، ونضيف ولا فرق بينهم لِغِنى أو فقر، لجاهٍ أو ضِعَة.
وأول الركائز الإنسانية، التي تُبيّـِن دور الدولة، في تكلّـُف توفيرها لعموم مواطنيها والمقيمين، هي ركيزة الأمن والطمأنينة، على النفس والعرض والمال، وحرية العبادة في الدين وحرية الممارسة للعقيدة، وحرية التعبير عن الذات والفكر، وحرية التنقل والتواصل على كامل مساحات الوطن، إلا ما تخصصه الدول للإستراتيجيات والإستخدامات العسكرية، التي عادةً ما تكون خارج المدن والمناطق المأهولة بالسكان، وإذا أقيمت بعض مباني إداراتها في المدينة، فلأنها غير ذات استراتيجية عسكرية، وإنما هي ذات صلة بعملها الإداري وبالمدنيين، فتُسيج وتُحرس بواباتها.
أما أن تُطوق الدولة مساحة مفتوحة في قلب المدينة التجاري، كدوار اللؤلؤة لما يناهز الثلاث سنوات، فإن في الأمر شيئاً غير طبيعي، بما يشي بالرمزية التحذيرية للانتصار الفئوي، الأمر الذي ينذر بتراجع جانب من إمكانيات الدولة، في توجيهها خارج نطاق دورها، وتراجع جانب من أركان الدولة، في انحيازها لفئة مجتمعية ضد أخرى.
تتابعت «التصرفات الفردية، غير المنهجية» كما تصفها مؤسسات الدولة المعنية، لتصل إلى التعرض للمعتقدات الدينية، التي ألفها المجتمع البحريني منذ مئات السنين، وقد صان ممارستها الدستور والقوانين، «حرية الضمير مطلقة، وتكفل الدولة حرمة دور العبادة، وحرية القيام بشعائر الأديان والمواكب والإجتماعات الدينية طبقاً للعادات المرعية في البلد» المادة 22 من الدستور. فالدستور هنا، لم يُرجِع أو يحيل تنظيم القيام بشعائر الأديان، والمواكب والاجتماعات الدينية، إلى قانون أو قرار، بل أوكلها للدولة تكفلها طبقاً للعادات المرعية والقائمة في البلد. وقد نصّ دستور 1973 على مثل ذلك أيضاً، بما يعني أن تلك العادات المرعية، سابقة حتى على دستور 1973 بسنين طوال، جعلت منها عادة مرعية.
هذه «التصرفات الفردية غير المنهجية»، تكررت في غزوات أسواق جواد، من قبل مرتَدِين اللباس المدني والزي الأمني على حد سواء، من بعدما انتشرت ذات التصرفات الخارجة على القانون، وإفلات مرتكبيها من العقاب، إبان بدء الأزمة في مارس 2011، وما تلاها، من تجمعات لأفراد يحملون السلاح الناري والأبيض، في منطقة البسيتين، وذاك الشهير بالجري في دوار اللؤلؤة رافعاً العصا، ليضرب بها الممرضات من النساء، المسعفات للمصابين، ولكونها حسب تقديرات الجهات المعنية، بأنها «تصرفات فردية غير منهجية» فقد غاب القانون وأفلت مرتكبوها من العقاب. فقد غاب قانون رقم (32) لسنة 2006، بتعديل بعض أحكام المرسوم بقانون رقم (18) لسنة 1973 بشأن الاجتماعات العامة والمسيرات والتجمعات، الصادر في يوليو 2006، هذا القانون الذي أقره مجلسا النواب والشورى، في دلالة على تصرفات السلطة بالإهمال لقوانين يقرها المجلسان، وبالخصوص المادة المضافة رقم (6) «كما لا يجوز لأي شخص أن يشترك في اجتماع عام وهو يحمل سلاحاً ولو كان مرخصاً له بحمله. ويعتبر سلاحاً في تطبيق أحكام هذا القانون، الأسلحة النارية وذخائرها والأسلحة البيضاء والمواد الحارقة والقابلة للإشتعال أو الإنفجار، وكذلك العصي والأدوات الصلبة أو الحادة غير المعتاد حملها في الأحوال العادية».
فكان التمييز والإفلات من العقاب، إهداء وثواباً لحاملي السلاح الأبيض من السواطير والسيوف والسكاكين، وأيضاً حاملي الأدوات الصلبة والحادة، فقد كانت «تصرفاتهم فردية وغير منهجية». وكذلك من دعا ونظّم وأشرك، كثرةً من غير المواطنين، من العمالة الوافدة، في التظاهرات والتجمعات في الفاتح وعراد، ودفع لهم المال جزاءً، في تعدٍّ صارخ وإضرار بحقوق المواطنين التي لا يحق لغيرهم من غير المواطنين، مشاركتهم فيها.
أفلا يحق للمواطن، أن يخشى على نفسه وماله وعرضه، من احتمال ضعف وتراجع الدولة، أو غيابها عن أداء دورها في المجتمع بالعدالة والمساواة في تطبيق القانون وإزاء الحقوق والواجبات؟