أبحث عبر الأفق عن بصيص أمل. المدن ترحل كما الناس. قال وهو يتجه صوب الأفق ما قاله يوما حميد سعيد : قلبي على المدن التي لم تحتل بعد.. رددها وغاب. ولم أر منه إلا ياقة معطفه تغطي رقبته من صقيع خلّفته المدن الراحلة.
وتتزاحم الصور أمام ناظري. وتتداخل المدن في صراعها نحو البقاء. الفلوجة، بغداد، بابل، غزة.. وتطول القائمة. ولا تسمع إلا صراخا مدويا أشبه بتلك الصرخة التي أطلقها يوما الفنان النرويجي إدوارد مانك في لوحته المشهورة، إذ يقول : كنت أسير في ممر مع صديقين، كانت الشمس تتجه نحو المغيب. وفجأة تلونت السماء بلون دموي أحمر. وقفت وشعرت بالإعياء، واتكأت على السياج. كان يوجد دم وألسنة لهب فوق المدينة الكحلية. مشى الأصدقاء، وبقيت هناك وحدي أرتجف من القلق، وشعرت
بصرخة لامتناهية تخترق الطبيعة..
صراخ في كل المدن..
وكل المدن أصبح لها رائحة الدم. كل المدن أجهضت أحلامها ونامت في دائرة النسيان. وعالم المجرمين هو من يموّه الصور، لأن من يصنع القرار هو القوي. حتى يأتي فنان كولومبي مثل فرانشيسكو بوتيرو ويرسم لوحات لما حدث في سجن أبو غريب مثلا. وقد عرض هذا الفنان أكثر من ثمانين لوحة حول انتهاكات الجنود الأمريكان للسجناء العراقيين في سجن أبو غريب. ورغم أن هذه اللوحات عرضت في أكثر من معرض في أوروبا، إلا أنها لم تعرض في أمريكا إلا ضمن عرض صغير في متحف خاص في غاليري مارلبورو في نيويورك(شبكة البصرة)، أما الحقيقة فتغيب في الملفات السرية لتغطى بالغبار مع مرور السنين، حتى وإن كشفتها مواقع مثل الويكيليكس. وتعود الذاكرة إلى لوحة الفنان الإسباني بيكاسو " مذبحة في كوريا"(1951) التي تصور التدخل الأمريكي في الصراع الكوري والتي استوحاها من لوحة للفنان الإسباني غويا " الثالث من مايو " (1808) التي تصور الجنود الفرنسيين يوجهون بنادقهم باتجاه السجناء الإسبان. أما لوحة بيكاسو، فتدخل في عمق المأساة حيث الجنود يوجهونها باتجاه نساء عراة، وامرأة حامل، وطفل يبدو الرعب على وجهه، فيحملون في أيديهم ما يشبه البنادق، وليست ببنادق، وإنما حاملات شموع، وقد لاحظ كثيرون ممن فسروا اللوحة أن هؤلاء الجنود ليس لهم أعضاء ذكورية، وبالتالي يسعون لقتل الحياة لخشيتهم من أجيال مقاومة قادمة. وهذا بالضبط ما حصل في الفلوجة، فباستعمال كل أسلحة الدمار الشامل والفسفور الأبيض، تشوه الأطفال وتشوهت الأجنة في الأرحام، وولد أطفال يحملون ختم العدو الحاقد الذي سعى منذ احتلال العراق إلى تدمير الإنسان وروحه.
وتبقى صور الواقع المؤلم أكثر دموية، وأكثر خفاء، ولن تظهر جلية إلا بعد تحرير المدن التي ما تزال ترزح تحت احتلال بغيض.