د. يوسف مكي
تستمر الدهشة وتتراكم الأسئلة، حول أسباب هذا الطوفان العاتي، الذي يعصف بأجزاء كبيرة من الوطن العربي، نظم سياسية تتهاوى، وهويات غابرة تطفح من جديد، باندفاعات صاروخية، لا تبقي ولا تذر. والدولة القطرية، التي أخذت مكانها في الواقع العربي، كواحدة من نتائج القسمة بين الكبار، في الحرب العالمية الأولى، وما أعقبها من أحداث جسام، والتي تم النظر سلبيا لها، من قبل المؤمنين بأن قدر هذه الأمة، ومستقبلها هو في وحدتها، أصبح بقاءها أمنية وضرورة، ومطلبا لكل من يتسربل بالخوف على مستقبل هذا الجيل، والأجيال القادمة.
ويقينا أن تجاوز ما يجري من انهيارات، وإعادة الاعتبار للهويات الوطنية، التي ارتبط حضورها مع مرحلة الانفكاك عن الاستعمار، تقتضي تشخيصا دقيقا لما يجري، باعتبار أن معرفة الداء، هو مقدمة لازمة لتحديد الدواء. لكن التشخيص ليس بالأمر السهل، ودونه كثير من المتاهات والأسئلة. هل ما يجري حقا هو صراع هويات؟! أم هو مؤامرة خارجية، أم شيخوخة نظم؟! ولماذا في هذه المرحلة بالذات؟!.
وربما لا يكون هناك جوابا واحدا، يمثل المفتاح للإجابة عن كل التساؤلات. ولعله يكون مركبا، ويحمل أبعادا عدة، بحيث يصعب حصره في إجابة واحدة.
كنا في قراءات سابقة، قد تعرضنا لضعف التشكيلات الاجتماعية، كعامل رئيسي للتشرنق في مرحلة ماضوية، والعجز عن اللحاق بالتطور التاريخي، الذي يجري من حولنا. ناقشنا تأثيرات ذلك على أوضاعنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. واعتبرنا أن شرط الولوج في النهضة، هو تحقيق تنمية حقيقية، بقوى محركة ذاتية، بأبعاد مختلفة، تسرع من تغيير بنية مجتمعاتنا العربية، ونقلها من حال إلى حال.
لكن الأسئلة تداعت مرت أخرى؟! وما الذي يمنع من ذلك؟! وكما تداعت الأسئلة تداعت الأجوبة. إلا أن ما حدث في الأربع سنوات المنصرمة كان شيئا آخر، مختلف عن كل الظواهر السابقة. ظاهرة انتعاش الهويات الصغرى، وتفتيت الأوطان.
وحين نأتي للمؤامرات الخارجية والتدخلات في شؤون الوطن العربي، فليس بالإمكان نفي ذلك. فالسيف كان مسلطا على هذه الأمة، منذ جاء التتار لعاصمة العباسيين. وامتشق الشعب العربي سلاحه، في وحدة قل أن يوجد لها نظير، دون التفات منه لتنوعه وطوائفه وعشائره، في مواجهة الغزو الخارجي. وكان الغزو محرضا على تلاحم شعبي أكبر بين مختلف مكونات النسيج العربي، بما أفشل الشعار الاستعماري المعروف، فرق تسد. بما يعني أن التدخلات الخارجية، لوحدها، لا يمكنها أن تكون سببا في تفرقنا وتمزقنا.
وضعنا فرضية انهيار النظام العالمي الذي ساد بعد الحرب الكونية الثانية، والذي سادت فيه الحرب الباردة، بين العمالقة، صناع القرارات الأممية، كعامل رئيسي لما نعانيه الآن من انهيارات. ولا شك أن المحرض على ذلك هو ما هو أقرب للقانون العلمي، الذي يوصف مرحلة انتقال الأجسام من حال إلى حال.
في مرحلة الحرب الباردة، حدث ترصين للعلاقات الدولية، وبعد سقوطها سادت الفوضى، وتغول قطب واحد بتوحش وغطرسة على صناعة القرار الأممي. ونحن الآن في بداية مرحلة جديدة، من الأحادية القطبية. وما يجري الآن هو نتيجة انزياح مرحلة وبروز مرحلة أخرى، لم يتركز حضورها بقوة، حتى هذه اللحظة على أرض الواقع.
ورغم وجاهة تأثير هذا التحول في الخارطة الكونية، لكنه لا يمكن أن يكون بمفرده مبررا لصراع الطوائف والقبائل، صراع داحس والغبراء المحتدم في منطقتنا، وبروز هويات من خارج التاريخ، وفي أحسن الأحوال على هامشه في منطقتنا العربية. والأنكى أن هذه التغيرات، لم تبرز في صيغة طفوح هويات ما قبل تاريخية فقط، بل صيغة حضورها، الذي ارتبط ببروز ظاهرة الإرهاب، التي تحولت في الثلاثة عقود المنصرمة إلى ظاهرة دولية.
تقدم الكاتبة الأمريكية ثيدا سكوكبل في كتابها الدول والثورات الاجتماعية، الذي صدر عام 1979م، جوابا ربما يساعدنا على فهم ما يجري. خلاصة أطروحاتها أن الثورات الاجتماعية، لا تتحقق بسبب الفقر أو وجود معارضة سياسية قوية، ولكن بسبب شيخوخة النظم السياسية، في البلدان التي تشتعل فيها الثورات.
وهي في هذا السياق، تشير إلى أن الثورات الكبرى في التاريخ المعاصر، سواء تلك التي حدثت في فرنسا أو روسيا أو الصين، ما كان لها أن تفلح في استيلائها على السلطة، لو كانت الأنظمة السياسية السائدة فيها، فتية وقادرة على الإمساك بزمام الأمور.
وإذا سلمنا بهذا التنظير، فإن ما يجري حاليا من حروب أهلية وصراعات بالوطن العربي، ليس مرده صراع الهويات بل تضعضع النظم في البلدان التي اشتعلت فيها حروب التفتيت. لقد عشعش الفساد والاستبداد في هذه البلدان، ونخرها السوس. ونسجت الأنظمة البيروقراطية حبالا قوية، حالت دون الإبداع والمبادرة. وفقدت تلك النظم مشروعيتها، بسبب عجزها عن مقابلة استحقاقات الناس.
ولأن التجريف السياسي كان شاملا، في شرق وجنوب المتوسط، لجأ الناس إلى حيلهم الدفاعيه، فاستنهضوا مورثاتهم القديمة، كتعبير انفعالي عن العجز عن فعل إي شيء. فكان اللجوء لثقافة الموت، بديلا من عشق الحياة.
كل ما جرى الحديث عنه من تدخلات خارجية واختراقات للأنساق والأعراف القديمة، صحيح. ولكنه لم يكن بمفرده قادرا على تشويه مجتمعاتنا إلى الحد الذي وصلت إليه، لو لم تكن البيئة مستعدة لاحتضان، التغول المعمد بالدم للهويات الجزئية القديمة. وستظل فتوة النظام وحيويته رهنا بمأسسة هذه البلدان، وشيوع مبدأ المواطنة بديلا عن صراع الهويات، وحماية للنظم السياسية من التضعضع والانهيار.