عبدالنبي العكري
كتبت قبل فترة مقالاً بعنوان «صحافة الهذر»، لكني أضيف أنها أكثر من صحافة الهذر، إنها صحافة التجهيل والتضليل. نعم… تتصفح هذه الصحف، وعلى فكرة، فهي متشابهة بل وبعض الصفحات متماثلة، ما يدل على طريقة الإدارة بالـ «ريموت كنترول»، فيما يكتب ولا يكتب، وما يغطى وما يحجب. فماذا تجد؟
خذ أية فعالية رسمية، كمؤتمر صحافي أو استقبال أو تصريح على هامش حدث ما أو زيارة لمكان ما أو تدشين لمشروع ما، فترى هذه الصحافة تنقل ما توزعه الوكالة الرسمية حرفياً، دون أخذ أو رد، ودون تطرق للحقائق التي قد تكون مجافيةً لما طرحه المسئول.
أما التعبير الآخر للتجهيل، فإنه في عرض أي قضية خلافية سياسية أو مجتمعية، مثل الموقف من الانتخابات، أو العمل السياسي أو الحقوقي أو رؤية الوضع، أو معالجة الجهات الحكومية لأية قضية بدءاً من تفاقم مشكلة مرض «السكلر»، حتى طريقة التعامل العنفي مع المتظاهرين السلميين، فإن هذه الصحافة تعرض للواقعة من وجهة نظر رسمية واحدة، دون عرض للوجه الآخر من الحدث.
في إطار التضليل، تندرج التسميات والتوصيفات التي تطلقها هذه الصحافة على الفاعلين، فأي متظاهر سلمي يعتبر مخرباً، أما استخدام الرصاص الانشطاري والغازات السامة ضد قرى بأكملها فهو دفاع عن النفس. والجمعيات الوطنية المعارضة مروّجة للإرهاب وذات أجندات خارجية، وتبعية لدول أجنبية معادية، تستهدف تقويض الأوضاع، أما الجمعيات الموالية فهي وطنية، ومخلصة وشريفة، وحريصة على مصالح البلاد العليا.
صحافة التضليل والتجهيل تحجب عن القارئ ما يتوجب على القارئ أن يعرفه، وهو علني ومتاح في وسائل الإعلام الأخرى وخصوصاً في الفضاء الإلكتروني. فهي تحجب جميع نشاطات ومواقف وآراء الجمعيات الوطنية والديمقراطية المعارضة وقياداتها وشخصياتها، كأنها غير موجودة في الحياة. وكذلك الأمر بالنسبة لمنظمات المجتمع المدني المستقلة، وجميع النشاطات السياسية والاجتماعية والثقافية والحقوقية والخيرية للأطراف المغضوب عليها، وفي المقابل تعمد إلى تضخيم نشاطات وترويج تصريحات ومواقف الجهات الحكومية وجمعيات الموالاة وقياداتها ومنظمات «الغونغو» وممثليها.
لكن يتضح للرأي العام، في كثير من الأحيان، هزال فعاليات تلك الجمعيات، فالمؤتمر العام لمن حشد «مئات الآلاف» لا يتجاوز مئتين، والتظاهرات الحاشدة مجرد بضع مئات، والمؤتمرات يقتصر حضورها على بضع صفوف أولى والباقي فراغ.
صحافة التضليل والتجهيل لا تقتصر في نهجها هذا على الوضع المحلي والأحداث المحلية، بل ينطبق على مجمل تغطيتها العربية والإقليمية والدولية، فهي منحازة لوجهات النظر الرسمية تماماً، ولذا لا تتورع عن تغطية الشمس بغربال، فهي تنعت المقاومة اللبنانية بـ «الإرهاب»، والتكفيريين بـ «المجاهدين»، والمدافعين عن حقوق الإنسان بـ «ذوي الأجندات السياسية المستخدمة من قبل العدو»، وتطلق على المحطات الفضائية القومية «أبواق الفتنة»، بينما مكاتب العلاقات العامة، والمجموعات المشتراة هم الحقوقيون الحقيقيون والموضوعيون، والمنظمات الخارجية المفبركة هي منظمات تطوعية إنسانية.
هذه الصحافة تختزل الوطن، ولا تتورع عن إظهاره بأنه ضحية مؤامرة عالمية أطرافها أميركا وإيران و«إسرائيل» معاً! وحسب دعوى إحداهن هناك أكثر من 300 فضائية مجندة ضد البحرين والإساءة إلى سمعتها، وشبكات من المنظمات العربية والدولية، ومخطط عالمي جهنمي يقاد من لندن وواشنطن وطهران وعواصم أخرى لتشويه سمعة البحرين، تقودها المعارضة المارقة بتحالفات إقليمية ودولية جهنمية.
لكن المضحك المبكي هو تشخيصها بأن المعارضة وخصوصاً «الوفاق»، فقدت جماهيرها وقاعدتها، حتى في أوساط الشيعة فباتت معزولة وليست ذات تأثير. وعندما توقع 47 دولة ديمقراطية بمن فيهم دول حليفة وصديقة مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، على مذكرة مشتركة في جنيف وتُقرأ أمام مجلس حقوق الإنسان، بشأن انتهاكات حقوق الإنسان وتعثر العملية السياسية مطالبة البحرين بمعالجة الوضع والحوار الوطني الشامل والجاد، يكون الرد أن هذه الدول مضللة من قبل المعارضة المغرضة!
وذلك ينطبق على أية دولة أو برلمان أو منظمة أو شخصية تنتقد سياسة السلطة، فهي مضللة ولا تعرف حقيقة الأوضاع. ولذا طالب أحدهم بالمزيد من المؤتمرات الخارجية وتضافر الحكومة والموالاة في إيصال الحقائق المغيبة.
أوضاعنا الداخلية في نظر صحافة التضليل والتجهيل ممتازة يحسدنا عليها العالم، وتجربتنا الديمقراطية رائدة، ويجب على الدول الديمقراطية الأخرى أن تتعلم منا… وهكذا هي الأمور مقلوبة في ديلمون التي يشيب فيها البشر قبل الغربان.