دعنا نمعن النظر في صورة المصافحة التاريخية بين الأزهري والصهيوني. كانت عيناك، يا شيخنا الفاضل، تحدٍّقان في عينيه الخبيثتين برضى وترحيب. كانت ابتسامتك تملأ وجهك كلًّه. كانت يدك تشدٌّ بحرارة على يده الملطًّخة بدم المسلمين.
كان جسدك يميل قليلاً إلى الأمام بانحناءة المستجدي، بينما كان جسده مشدوداً قليلاً إلى الوراء بترفُّع المتعجرف المحتقر. كان كل شيء في عينيه وعلى شفتيه يعٍّبر عن التحفُّظ والتردٌّد، بينما كانت كل حركاتك وتعبيراتك الرمزيًّة تدلٌّ على الإندفاع غير الرًّزين. لم تكن الصورة مريحة لنا، نحن معشر العرب والمسلمين، فكان أن قرأنا فيها الكثير مما اعتبرناه مجحفاً بحق أمة العرب وأمة المسلمين ومع ذلك فاننا سنتحرًّج عن قراءة النًّوايا، بل وسنفترض حسن النوايا الطفولية الطيبة لديك.
لكن دعنا من قراءة النوايا التي علٌمها عند ربٍي ولنناقش معك موضوع الحصافة أو التعقل الذي كان يجب أن يسود في تلك اللحظة السوداء. إن الفيلسوف اليوناني أرسطو قد وصف الحصافة بأنها فضيلة عقلية تساعد الإنسان على التفريق فيما بين الصالح والطالح في مواقف الحياة. إنها نوع من ممارسة الذوق السليم لدى البشر الحسًّاسين. ولقد اعتبرها بعض الفلاسفة فضيلة مهمًّّة في قائمة الفضائل، بينما اعتبرها البعض الآخر الشًّرط الذي يجب أن يتواجد عند ممارسة كل الفضائل بدون استثناء. ذلك أن تطبيق وممارسة الفضائل يحتاج لاستعمال الحصافة والتعقٌّل حتى لا ينقلب التطبيق إلى ممارسة لا تأخذ الواقع بعين الاعتبار وتصبح الفضيلة عبارة عن قيمة نظرية لا معنى لها في واقع الحياة وتعقيداتها. الحصافة هي إذن أداة نستعملها عند رغبتنا في ممارسة الفضائل من مثل الصٍّدق والشجاعة والعدالة والحب وغيرها.
فهل مارست يا شيخنا الأزهري الجليل الحصافة عندما وجدت نفسك وجهاً لوجه مع المجرم المغتصب، ذلك الرمز للصهيونية بكل ما تحمله من رذائل؟ ذلك أننا سنفترض أنك كنت تحاول ممارسة فضيلتي التهذيب والتسامح. ولكن هل استعملت، يا رمز الأزهر المقدًّس، الحصافة عند ممارستك لهاتين الفضيلتين؟ وإلاُ فلم لم تقدك حصافتك إلى أن تعرف بأن معاملة المجرم السفًّاح المكابر المخادع بأدب وبتسامح هي ممارسة بامتياز للرذيلة؟ لماذا لم تقدك حصافتك إلى أن تدرك بأن ممارسة فضيلة التأدب مع رئيس وقائد تاريخي لكيان بربري استيطاني هو قبول، حتى ولو كان غير مقصود، للفكرة الشيطانية التي قام عليها ذلك الكيان؟ لماذا لم تدرك، بحصافة وعقل رزين، بأن التسامح مع الذي كان واقفاً أمامك هو ظلم لأرواح كل العرب والمسلمين الذين قتلتهم آلة الحرب الصهيونية العمياء، وانه إهانة قبيحة لأطفال ونساء وشيوخ وعجزة ومرضى وجياع غزًّة، وأنُّه دوس على شرف الألوف من رجال ونساء العرب القابعين في سجون ذلك المجتمع المتوحش؟ إن الفيلسوف أبيقورس قد وصف الحصافة بأنها اختيار للرغبات الإنسانية التي يجب أن تلبًّى ورفض للرغبات التي يجب أن تنبذ. فأي رغبة كاسحة تلك التي فرضت عليك ذلك الموقف الذي لا يمكن أن يليق بتاريخ ومكانة المؤسسة التي تجلس على رأسها؟
إن الرجل الحصيف هو الذي لا يشدٌّه الحاضر فقط، وإنُّما أيضاَ يعطي اهتماماً بالمستقبل. إنه الذي يلمٌّ بقوانين ومصاعب ومحدٍّدات الواقع ويأخذها جميعاً بعين الاعتبار وعند اتخاذ كل قرار، فكيف إذا كان القرار بثقل وأهمية قرار المصافحة المشؤومة تلك؟
لقد وصفنا، عبر السنين، السياسيين من الذين امتدُّت اياديهم لمصافحة ايادي الأعداء الصهاينة بأنهم كانوا يمارسون الانتهازية أو الإستسلام أو حتى الخيانة، أما أنت ياشيخنا المبجًّل فسنعتبرك حالة أخرى. لقد حاولت، على ما نظن، بأن تمارس بعض ما اعتبرتها فضائل، فمارستها بدون حصافة وبدون تعقل، فحقُّ لنا أن نصفك بالشيخ غير الحصيف.