ثانيا: تحطيم النصب والتماثيل والجداريات
منذ الأيام الأولى لغزو البرابرة الجدد عام 2003، والعراق يعيش عمليات سطو ممنهجة غير مسبوقة على تراثه العربي والإنساني ومقتنياته الأثرية ثم بيعها وتوزيعها ونثرها في ارجاء العالم وما رافق ذلك الغزو من تدمير شامل لمباني البنية التحتية العامة، وهدم المتاحف ونهبها، وحرق المكتبات وتدمير المؤسسات، ومازال البلد يعيش مراحل اغتيال الذاكرة الجماعية، بتغييب البنى الحضارية والثقافية بقصد تدمير روح الشعب الوطنية والقومية المستندة إلى بنية التراث والحداثة.
وفي الوقت الذي تبدي فيه دول الاحتلال اعتزازها وفخرها بكل قطعة حجر من آثارها وتماثيل رموزها، وتشيد النصب وتقيم التماثيل في الميادين العامة لتذكر أجيالها ببنية التاريخ والأمجاد القومية، نجدها تقف تتفرج تحمي العصابات أو تساندها في تقويض وهدم المظاهر الفنية الوطنية والجداريات الجميلة والنصب العتيدة ذات الدلالات الرمزية التاريخية والإنسانية التي أبدعها الفنانون العراقيون المعاصرون، أهي ازدواجية المعايير؟ أم هو مسلسل الخراب المنهجي الذي اتخذوه سياسة لشعورهم أن القيم التاريخية تشكل خطرا على وجودهم الطارئ، وتعيق خططهم في التدمير الشامل للبلد.
ففي اليوم الأول لاحتلالهم المقيت قصفت بوابة المتحف العراقي بقذيفة دبابة أميركية وحطمتها، واستمر مسلسل التخريب، فجر تمثال الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بحي المنصور، وتمثال الخليفة العباسي الواثق بالله، وطالت قذيفة رأس مئذنة سامراء وعمرها 1200 سنة، وطال التخريب والتدمير “قوس النصر” في ساحة الاحتفالات بالمنطقة الخضراء، سفينة على طرفيها ساعدان يقبضان سيفين تعانقا وبأسفلهما خوذ حقيقية لجنود إيرانيين ضحايا حربها على العراق بتصميم الفنان خالد الرحال، وخرب نصب “اللقاء” بالكرخ تصميم الفنان علاء بشير يجسد الوحدة الوطنية، ولقاء كل عراقي مغترب عائد لوطنه بمدخل عاصمته، وأزيل نصب بلاط الشهداء والأسير العراقي بجانب الجامعة المستنصرية، وهدم نصب المقاتل في باب المعظم، ورفع نصب المسيرة (سفينة النجاة) في العلاوي، وحطمت جدارية التأميم عند مدخل وزارة التجارة، واختفت تماثيل قادة ثورة 1941 بساحة الطيران، وتماثيل الضباط ممن اعدم في ساحة أم الطبول، ورفع تمثال الأم العراقية بمدينة الصدر، وفجر تمثال كهرمانة علي بابا والأربعين حرامي مستوحى من قصص ألف ليلة وليلة، وقطّع هيكل شهرزاد وشهريار في أبي نواس، وسرق تمثال عبدالمحسن السعدون، وحطمت تماثيل حدائق معهد الفنون الجميلة واستهداف نصب ثورة العشرين في مدينة النجف؟ وحطمت تماثيل قادة فيالق الجيش العراقي المطلة على شط العرب شهداء الدفاع عن العراق الذين يشيرون بأيديهم إلى إيران المعتدية، وأحرق تمثال الخليل بن احمد الفراهيدي أمام محافظة البصرة، وهناك خطة لتدمير نصب الجندي المجهول في ساحة الاحتفالات لإعادة الهيكل القديم بساحة الفردوس.
ومن المفارقات الصارخة أن نرى الأسبان يقيمون في مدينة قرطبة اليوم تماثيل عربية لابن رشد، والحكم بن مروان، وابن زيدون وولادة، وتشهد بغداد والمدن العراقية حالة هجوم مرعبة من التعرض لكل ما يذكرها بالماضي القريب والبعيد، ويفقدها معالم التراث والإرث الحضاري، ومظاهر الإنجاز الذي حققه الإنسان العراقي العربي على مدى العصور والمراحل السابقة، محاولة حاقدة وظالمة لطمس عظمة التاريخ وتحويل المدن العراقية الأصيلة إلى حظائر ومحاجر للبشر، بلا لون ولا طعم ولا رائحة، فمن يدخل مدن العراق اليوم ولاسيما مدينة الرشيد بغداد عاصمة أطول خلافة عربية، وكانت من أجمل العواصم تتمدد بقوامها الرشيق على شاطئي دجلة لا يرى سوى الحواجز والأسوار الكونكريتية تقطع أوصال المدينة، وتفصل أحياءها، واختفى كل ما يذكر بعراقتها العراقية من نصب وتماثيل وجداريات وواجهات، وخلت مكتباتها من النوادر ومتاحفها من المقتنيات، وعوضا عن كل ذلك لا يعدم المقيم فيها أن يرى رؤيا العين بعض الأحياء تتبادل مع بعضها الآخر عبر هذه الأسوار هدايا القذائف والصواريخ التي تجلب الموت والدمار بدل الازدهار.
والغريب لا يعرف صراحة من يقف مباشرة وراء التدمير، فالعمليات تتم بالتفجير أو على أيدي أشخاص تحرسهم فرق عسكرية يقال مليشيات خاصة يساندها الحرس الثوري الإيراني، ويقال بتوجيه صدر من رئاسة الوزراء إلى أمانة العاصمة بتحريض من رجال الدين، فإذا كانت محرمة لماذا أقاموا تمثالا في مدينة الصدر لامرأة ملثمة تدعى بنت الهدى، ولو تقصدوا تراث البعث فهل نصب ثورة العشرين في النجف، وتمثال الخلفاء وشهرزاد وشهريار تراث بعثي. وإذا كان لابد من رفعها بدافع أيديولوجي أما كان بالإمكان الرفع بطريقة حضارية والاحتفاظ بها في متحف خاص لتكون أيضا شاهدا على فترة زمنية لاسيما أنها أقيمت بأموال الدولة، ولماذا هذه الهجمة الشرسة ويسكت العالم اجمع واليونسكو وكانوا قد أقاموا الدنيا على طالبان ولم يقعدوها حينما حطمت تمثالين قديمين بأفغانستان؟ أم هي الأخرى دعوات مؤدلجة؟ وهل هذه هي الدولة المتحضرة التي أراد النظام العالمي الجديد إقامتها في العراق لتكون قدوة للنظم الدكتاتورية في المنطقة، ألا ساء ما عملوا وما يعلمون ويمكرون.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.