|
د/ علي محمد فخرو
لا يتعب الناشطون في الحياة السياسية العربية من وضع الأمة أمام خيارين، ومن الإصرار على أن تختار الأمًّة أحدهما . لقد أسهم هؤلاء في دفع الإنسان العربي نحو العيش في لعنة الثنائيات الأبدية .
على هذا الإنسان أن يختار بين الدين والعلم، بين النقل والعقل، بين العروبة والإسلام، بين الوحدة العربية والقطرية المتزمتة، بين القبلية والوطن . عليه أن يعيش مشدوداً إلى قطبين متعارضين لا يلتقيان ولا يتعايشان .
نتيجة كل ذلك كانت فوضى فكرية سياسية وصراعات مجتمعية لا تنتهي في ساحة إلا وتبدأ في ساحة أخرى .
اليوم في خضم سيرورة ثورات وحراكات الربيع العربي يطرح البعض ثنائية جديدة تحت شعاري “الشرعية الثورية” و”الشرعية الانتخابية”، وعلى الأمًة أن تختار أحدهما . وهذا طرح فيه الكثير من سوء الفهم الذي لا مبرًّر له، إذ أن هناك حاجة ملحة للشَّرعيتين .
ذلك أن مجتمعات عاشت أشد أنواع التخلف الحضاري عبر العديد من القرون، واستباح الاستعمار والاستبداد ثرواتها المادية والمعنوية بلا شفقة، وتواجه الآن الاستيطان الصهيوني في قلبها الجغرافي والمؤامرات الخارجية والداخلية لتفتيتها ولإذكاء الصراعات المذهبية والدينية والقبلية والعرقية في جميع أصقاعها، وتبتلع أنظمة الحكم الاستبدادية الفاسدة كل مكونات هذه المجتمعات لتبقيها ضعيفة عاجزة، وتصعد فيها بشكل مذهل وباسم الدين قوى تكفيرية عنيفة بالغة القسوة تجاه الأبرياء الغافلين من سكانها، ويتدخل القاصي والداني في كل شأن داخلي من شؤونها . . . .إنًّ مجتمعات كهذه ستحتاج إلى شرعية نضالية شعبية سلمية ثورية في فكرها واستراتيجيات عملها . فالمشي كالسلحفاة لمواجهة كل تلك الأوضاع المفجعة لن يكون أكثر من علاجات جزئية مؤقتة تتوجه لتخفيف أعراض الأمراض وليس إلى اجتثاثها وشفائها .
إذن هناك حاجة لتغييرات ثورية بمعنى الحاجة لتغييرات جذرية في الكثير من مظاهر الحياة العربية الخاطئة والمتخلفة . وبالتالي فأي حديث عن التوجه العربي نحو المستقبل خارج إطار مثل هكذا شرعية تغييرية جذرية، أي ثورية، سيكون مسرحية أطفال لاعبين، لا ملحمة أبطال محاربين .
لكن هل يعني تبني تلك الشرعية رفضاً للشرعية الأخرى، الشرعية الانتخابية ؟ لو تمت حماقة الرفض تلك فإن أحد أهم أهداف ثورات وحراكات الربيع العربي سيتخلى عنها . بل سيضاف إلى ذلك تخل عن وسيلة مفصلية من وسائل النضال الثوري .
نعم، لقد لاقت وسيلة الشرعية الانتخابية شتى أنواع التشويه والاستغلال العبثي من قبل بعض القوى الرجعية العربية . نعم، هناك نقاط ضعف وعلل في ممارسات هذه الوسيلة حتى في البلدان التي تدعي أنها معاقل وحاضنات الديمقراطية .
لكن، على الرغم من كل ذلك، أثبتت البرلمانات عبر قرون عدة من تاريخها الحديث أنها كانت ساحات لتغييرات كبرى في الكثير من المجتمعات . ثم إن تحسين أدائها وإبعادها عن الإغواء يمكن أن يكون أحد الأهداف الثورية .
إذن نحن أمام خيار واحد وليس أمام خيار في ما بين ثنائيتين . المظلة الكبرى هي الثورية التي لن تتوقف حتى تنقل مجتمعات أمة العرب من وضعها الحضاري البائس إلى وضع تحقق مشروع الأمة النهضوي في الوحدة والاستقلال والتنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتجديد الحضاري . لكن أحد أهدافها ووسيلتها في آن واحد هو نظام برلماني ديمقراطي فاعل كامل الصلاحيات ومستقل الإرادة ومدافع في ذات الوقت ودوماً عن أهداف الشرعية الثورية التغييرية الجذرية .
إنً أية مقابلة بين الشَرعيتين ستخلق البلبلة والشكوك كما فعلت أخوات لها من قبل في شتى ساحات الأرض العربية .
المطلوب الآن، وفي المستقبل القريب هو إغناء وتعميق وتوضيح مفهومي الشرعية الثورية والشرعية الانتخابية لإبعاد الأول عن جنون العنف وسفك الدماء العبثي الفاشي المبتذل، وإبعاد الثاني عن الوقوع في أيادي من يخططون لثورات مضادة، أو في أيادي من يحاولون بانتهازية أكل صيد قام به وضحى من أجله غيرهم .
هذه ليست مهمة أكاديمية لمفكري وكتاب وإعلاميي وقادة المجتمع المدني السياسي العرب . إنها مهمًة نضالية وفكرية يومية لإبعاد ملايين الربيع العربي عمن يحاولون ليل نهار إدخالهم في صراعات الولاءات الفرعية لإبعادهم عن الولاء الثوري الديمقراطي للوطن، ولا شيء غير الوطن .