لنمعن النظر في تركيبة شخصية الإنسان العربي الجديدة، وعلى الأخص في دول الوفرة المالية النفطية، وذلك بعد أن اقتحمت الثقافة العولمية كل أبواب ومنافذ ذلك الإنسان. لنراقب على الأخص جيل الشباب وهو يعرض نفسه كسلعة للبيع في السوق العولمي حتى ولوكان سوقاً محلياً.
في مظهره الغربي يجب أن يكون حليق شعر الرأس كما يفعل أبطال الرياضة وفنانو الموسيقى الصاخبة، وأن يكون لون بدلته رمادياً غامقاً كما يلبس موظفو البنوك في كبرى العواصم الغربية، وأن تقبع قدماه في حذاء مدبب يذكر ببهلوانات السيرك كتأكيد على متابعة موضات العصر وصرعاته. في مظهره العربي الخليجي يجب أن تكون الغترة التي تغطي الرأس منشاة ومطوية بعناية فنية في الوسط ومنتشرة كجناح الطير في الجانبين وأن يلتف الثوب حول العنق ويتسع حول الأذرع والأيادي وينساح برفق حول القدمين ليلامس برفق الأرض. مثل التماثيل التي يراها الإنسان في شبابيك عرض دكاكين بضائع الترف الغالية الثمن يبدو أولئك الشباب وهم يقفون امام اصحاب النفوذ المهيمنين على حركة الحياة الاقتصادية في المجتمعات.
ليس ذلك الوصف نقداً أو استهزاءَ باللباس ذاته فاللباس تحكمه ممارسة الحرية الشخصية طالما أنه لا يخدش الحياء العام، وكلا اللباسين لا يخدشان الحياء العام، وإنما القصد هو إبراز النمطية في ذلك اللباس المرتبط بصفات شخصية مطلوب توفرها ومفروضة من قبل قوى خارج إرادة واختيارات وأذواق الإنسان نفسه.
إنه مظهر خارجي سلعي تجاري يغلف ويخفي تركيبة شخصية وصفها عالم النفس الفيلسوف الأمريكي إيريك فروم كسلعة قبل أكثر من نصف قرن 'بشخصية السوق' إنها شخصية تعرض نفسها كسلعة، وما اللباس إلاُ الغطاء المزخرف الجذاب الذي تلف السلعة في داخله. لكن يتبع الغطاء المزخرف شخصية سلعية مزخرفة قابلة للبيع والشراء ومطلوبة ومرغوب فيها من قبل من لديهم المال والوجاهة والسلطة. إنها في وقتنا هذا شخصية سلعية عولمية بتركيبة نفسية ـ أخلاقية محددة.
في قلب هذه التركيبة تقبع فلسفة التركيز على القيمة التبادلية للسلعة وليس على مقدار فائدتها. وهذه الفلسفة تقود الإنسان إلى أن يبني ويتبنى كل الصفات والالتزامات الشخصية التي تجعله سلعة تبادلية غالية الثمن ومطلوبة من قبل مستخدميه إن أراد الحصول على وظيفة أو من قبل زبائنه إن كان صاحب مهنة أو مالك مؤسسة خدمية. في هذه الحالة ليس المهم كثيراً أن تتوفر في الإنسان الكفاءة والقيم الأخلاقية الكبرى، من مثل الشرف والأمانة والنزاهة، وإنما توفر صفات شخصية أخرى تجعل الشخص سلعة مطلوبة. من بين هذه الصفات أن يكون بشوشاً، طموحاً إلى حدود المغامرة، قادراً على التلاعب بعواطف الآخرين وقناعاتهم ومتمكناً من إثارة رغباتهم في المظهر والاقتصاد والتنافس. ويفضل أن تكون له خلفية عائلية وارتباطات مجتمعية متميزة، كعضوية في نواد وجمعيات شهيرة، ترشحه للصعود مستقبلاً إلى مستوى صفوة المجتمع وعلية القوم.
عنذ ذاك لا يكون شعار الإنسان 'أنا من من أنا، بذاتي وشخصيتي وقدراتي' وإنما يقدم نفسه: 'أنا من ترغبون فيه، وسأكون سلعة مرغوبة وقادرة على المنافسة في السوق العولمي الرأسمالي المتوحش الذي صار وحده المرجعية التي تتحكم في لباس الإنسان وصفاته الاجتماعية والقيم التي تحكم حياته، وبذلك تجعله يمثل الدور المطلوب منه إن أراد النجاح في حياته.
ما لايعرفه الإنسان الذي يقبل أن يمثل الدور الذي يرسمه الآخرون له هو أنه دور متغير، تماماً كما تتغير موضات العصر. عند ذاك عليه أن يكون شخصية فارغة من الداخل ومستقبلة بترحيب وبدون تمحيص لكل ما يدخلها ويملأها من الخارج. إنها ستكون حبيسة إرادات وأذواق وتحكمات الآخرين.
ما يوجع القلب هو أن تلك الشخصية المعلولة، المغلوبة على أمرها، المستسلمة لغيرها تنتشر في مجتمعات اليسر العربية كما تنتشر النار في الهشيم. إنها تحكم العلاقات الأسرية فتحيلها إلى ثلج بارد مظهري، والعلاقات الشخصية فتجعلها مبنية على النفعية والانتهازية. إنها تتحكم في نوع السيارة، وحجم ورفاهية البيت، والمدرسة التي يلتحق بها الأولاد، والزوجة المطلوبة إلخ، حتى ولو أدى ذلك إلى قيد عبودية الديون والإرتهان وإلى إفساد وتدمير الذات، تماماً كما فعل بنفسه بيرجنت بطل مسرحية الكاتب النرويجي إبسن، وكما فعل بنفسه فاوست بطل رواية الكاتب الألماني غوته، وهي شخصيات مريضة أنتجتها حضارة المجتمعات الغربية، وها أن طريقة عيشنا العربية الجديدة تنتجها عندنا بكثرة مفزعة.