معن بشور
في بيروت الوفية لقضايا الأمة ولأحرارها ورموزها، بيروت المفتوحة القلب والعقل لكل مبادرة شعبية أو تيار وطني أو فعالية قومية، بيروت التي امتلأت شوارعها بمسيرات الاحتضان لكل مقاومة دون تمييز رافضة ازدواجية المعايير في المواقف والرؤى والسلوك، بيروت المظلومة حتى من بعض الذين انتصرت لهم على الظلم، والمحاصرة حتى من قبل بعض الذين علا صوتها في وجه كل حصار تعرضوا له، نلتقي اليوم حول عناوين ثلاث هي في حقيقتها عنوان واحد هو كرامة الأمة ومقاومتها.
وأهمية لقاء اليوم انه جاء أيضاً بمبادرة من أخوة أعزاء شهدت لهم ساحات النضال والمقاومة في كل لبنان عطاءات مميّزة معطرة بدم الشهداء … بل بطعم الحرية في معتقلات العدو وفي سجون الأشقاء … فما هانوا ولا لانوا ولم يبدلوا تبديلا، وبقي صوتهم صادحاً بحقوق الأمة والوطن والناس حتى الحراك الشعبي والمدني الأخير في ساحات العاصمة والمناطق… بل بقيت ذكرى شهدائهم حاضرة في كل حين، كيف لا وفي مثل هذه الأيام قبل واحد وأربعين عاما استشهد أسود ثلاث هم السادة علي وعبد الله وفلاح شرف الدين أبناء مدرسة البعث التي لا تساوم ولا تهادن في مواجهتها للعدو… استشهدوا في مسيرة مقاومة عرفت شهداء لهم من رفاقهم قبل استشهادهم وبعده…
*******
بعد أيام من الاحتلال الأمريكي والأطلسي للعراق جاءني المراسل الشهير في قناة CNN الأمريكية برانت سادلر ليسألني في مقابلة قصيرة : ما رأيك بمصير الرئيس صدام حسين بعد الحرب؟ أجبته على الفور: أحد احتمالين أما شهيداً بيد الاحتلال كما عمر المختار في ليبيا، وأما محرراً كصلاح الدين الأيوبي ابن تكريت الذي حرّر القدس….
وقبيل الحرب، وفي جلسة ضمتني والرفيق المناضل الوزير والنائب السابق بشارة مرهج مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، قال لنا الحريري متفائلا: “لقد قضي الأمر… لن تقع الحرب في العراق، فقد عقدت صفقة تعهدت فيها حكومة ألمانيا بإخراج الرئيس العراقي وعائلته ورفاقه من العراق ليعيشوا في دولة يختارونها، وأجبته يومها : لا اعتقد إن صدام حسين يرضى بمغادرة العراق مهما كانت الصعوبات أو المغريات، فأجابني : ولكن المسألة مسألة حياة أو موت… حيث يعاد النظر بكل شيء… فقلت له باختصار: إنك لا تعرف الرجل… صدام حسين لا يغادر العراق.
وليلة احتلال بغداد في 9/4/2003، وفي مقابلة مع الإعلامي المعروف مارسيل غانم في برنامجه الشهير “كلام الناس″، قال الدكتور خير الدين حسيب (الأمين العام المؤسس للمؤتمر القومي العربي والذي أمضى أكثر من عامين في سجون النظام العراقي وأمضى بقية عمره خارج العراق) في معرض الرد على سؤال لغانم: أين صدام حسين؟:” إن صدام حسين موجود في العراق وهو يقود المقاومة هناك”، وكان قد عمّ يومها خبر هبوط طائرة روسية في مطار بغداد الدولي قامت بنقل الرئيس العراقي وعائلته وكبار القادة إلى خارج العراق.
هل كان ذلك التقدير الحازم ضرباً من التنجيم أو التنبؤ كما يظن البعض، أم انه نوع من المعرفة بالرجل والثقة بشجاعته ووطنيته النابعين أصلاً من إيمانه العميق بربه وبأمته وبحق بلاده… وهو الذي قال لي في لقائي الاخير معه قبيل الحرب باسابيع: لقد وصلت إلى أعلى ما يشتهيه أي عراقي أو عربي من شهرة ونفوذ وسلطة… لكن هناك مرتبة اطمح أن يمنحني إياها الله عزّ جلاله وهي مرتبة الشهادة في سبيل الله والأمة، كما نرى اليوم في فلسطين وبالأمس في جنوب لبنان….
لم تكن شجاعة الرئيس الشهيد قراراً شخصياً مرتبطاً بطبيعة نشأته في ظروف شخصية ونضالية قاسية عاشها فحسب، بل كانت وليدة إحساس مع رفاقه بمسؤولية تاريخية وبإيمان عميق أن في إرادة المناضل قوة تعيد صياغة موازين القوى.
بهذه الشجاعة كان قرار تأميم النفط العراقي في أول حزيران 1972، وبها كان قرار إطلاق الصواريخ العراقية على تل أبيب في مطلع عام 1991، بكل ما فيه من تحدٍ صارخ للترسانة الصهيونية التي لم يغفر أصحابها لصدام حسين وللجيش العراقي الباسل، واليوم عيد تأسيسه أيضاً، هذا القرار فلعبوا دوراً خطيراً في استصدار قرار بوش الابن بالحرب العدوانية على العراق، ثم بحل الجيش العراقي وصولاً إلى إعدام الرئيس صدام حسين… بل بهذه الشجاعة صدر بيان 11 آذار 1970 للحكم الذاتي الكردي رغم كل ما شهده الشمال العراقي من حروب، وهو البيان الأول من نوعه في الاقليم، ليؤكد ن قوميتنا العربية تحترم الحقوق القومية لكل الجماعات المتساكنة معها.
بل بهذه الشجاعة أيضاً، وقف الرئيس صدام حسين في حضانة للأطفال في بغداد، وفي عزّ الحرب مع إيران ليسأل الأطفال في الحضانة من هو عدو العراق… وحين يجيبه طفل، وأمام وسائل الإعلام العراقية: إن عدو العراق هو إيران يرد الرئيس بوضوح: إسرائيل هي العدو، ورغم أن بيننا وبين إيران حرب الآن، لكنها جار باقٍ إلى الأبد على حدود العراق.
*************
في هذه الظروف العصيبة التي نلتقى فيها اليوم حول فلسطين والعراق وكل قضايا الأمة ندرك إننا جميعاً بحاجة إلى شجاعة من نوع خاص، شجاعة المراجعة المستمرة لكل سياساتنا ومواقفنا ومفردات خطابنا، بل شجاعة التجاوز لجراح أثخنت قلوبنا وأربكت مسيرتنا، لأن الجرح مهما كان قاسياً يبقى أقسى وأخطر حين يسيطر على العقل ويحدّد السياسات والمواقف… بل شجاعة بناء الجسور مع أبناء أمتنا ودول جوارنا الحضاري أيّاً كانت التباينات في الفكر والرؤى، بل أن نبنيها على قاعدة الاحترام المتبادل للسيادة والمصالح القومية أيّاً كانت خلافاتنا معهم…
في هذه الظروف التي نحيي فيها ذكرى من كانت كلماته الأخيرة قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة وقبل النطق بالشهادتين، “عاشت فلسطين حرة عربية”، ونحيي فيها ذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية، علينا أن ندرك إن فلسطين يجب أن تبقى القضية الحاكمة لكل مواقفنا، والمعيار الكاشف لكل سياساتنا، فحولها نتحد بوجه كل تحريض طائفي ومذهبي يسعى إلى تمزيق وحدتنا، وبها نتحصن بوجه كل مفردات الحروب الأهلية محلية أو عربية أو إقليمية، وبهديها نواجه كل ما يحيط بنا من مؤامرات وفتن، فنرفض الحرب الكونية على سوريا وفيها، وهي تجنّد كل أدوات الغلو والتوحش الظلامي لخدمتها وتدمير سوريا، ونرفض الاحتلال الامريكي المتجدد في العراق ومفاعيله وأثاره وادواته ومحاصصته الطائفية والمذهبية والعرقية، وندين الحرب التقسيمية التي جاء بها الناتو الى ليبيا قبل حوالي خمس سنوات وما زالت مستمرة ، ونرفض العدوان الظالم والاحتراب الدائر في اليمن أيّاً كانت مبرراته، ونواجه بوعي وتصميم كل محاولات الاعتداء على حقوق الإنسان أو حرياته، وخصوصاً على حياته.
فرفض إعدام رئيس عربي صبيحة أول أيام عيد الأضحى بعد الاحتلال وأدواته، هو دعوة لنا لنرفض أي إعدام لصاحب رأي أو موقف، وبالتأكيد لرفض الإعدامات الفورية اليومية التي ينفذها الصهاينة بوجه شباب انتفاضة فلسطين الباسلة وشاباتها.
إن إدراك هذا الترابط والتلازم والتكامل بين فلسطين والعراق وقضايا الأمة، والذي يمثل هذا اللقاء احد عناوينه، ليس واجباً وطنياً أو قومياً أو أخلاقيا أو إنسانيا فحسب، بل انه سلاحنا الأمضى في وجه كل ما يحيط بنا من فتن ومؤامرات، أخطرها وأبشعها هو أن نختلق لنا أعداء غير العدو الصهيوني، ونستنزف طاقاتنا في غير ساحة النضال المركزية ومن أجلها…
**********
قبل عام ونيّف، وعشية انعقاد الدورة الرابعة والعشرين للمؤتمر القومي العربي في حزيران 2013، سألني صديق كبير وأخ حبيب توفاه الله قبل عام ونيّف، هو نقيب محامي الأردن السابق والنائب والوزير الأردني السابق، حسين مجلي: كيف توفق بين علاقتك بحزب البعث “العراقي” – حسب وصفه – وبين حزب الله، بين علاقتكم ببغداد ما قبل الاحتلال وبدمشق رغم ما كان بينهما من صراع ، أجبته ضاحكا:” بكل بساطة، لأنني أدعم كل مقاوم للاحتلال، صهيونياً هذا الاحتلال أم أمريكيا ، ولأنني مع رفاقي نحاول أن نتسلح بالموضوعية في تقييمنا للأحداث والحركات، فنركز على الايجابي منها ونبني عليه، ونصارح المعنيين بالسلبي منها ونسعى لتجاوزه بالتركيز على الايجابيات… إنها وصفة بسيطة جداً لمن لا يحركه إلا حب وطنه وأمته”.
واليوم وفي هذا اللقاء، نتذكر إننا اختلفنا مع (فتح) في عدة أمور، والتقينا في أمور أكثر، وانه كان لنا ملاحظات نقدية على تجربة السلطة في العراق ولكن كان لدينا ملاحظات ايجابية عديدة ، والتي بسببها ، لا بسبب السلبيات، اشتد الحصار على العراق وتفاقم العدوان وحصل الاحتلال….
فلتكن فلسطين وجهتنا، والمقاومة طريقنا، والموضوعية سبيلنا، حينها لن نخطئ “السبل”.
الخلود للشهداء، والشفاء للجرحى، والحرية للأسرى ومعتقلي الرأي
والنصر للأمة على طريق الوحدة العربية وتحرير فلسطين
كلمة القيت في مهرجان اقامه حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي في فندق الكومودور في بيروت في الذكرى التاسعة لاستشهاد الرئيس صدام حسين، وذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية.