قاسم حسين
من المؤلم أن يتصل بك طفلك ذو الخامسة قبل عودتك إلى المنزل، لتشتري زجاجة خلّ بدل أن يطلب علبة شوكولاتة، ليرشّها في المنزل لتخفيف رائحة الغازات الخانقة المسيلة للدموع.
رشّ الخلّ في المنزل أصبح من الإجراءات اليومية في المنزل مساءً، وأحياناً عصراً، بالإضافة إلى وضع قطع القماش المبلّلة بالماء تحت الأبواب وسدّ النوافذ بالأكياس البلاستيكية، خوفاً من الغازات الخانقة. فمنذ شهر رمضان الماضي تتعرّض كثيرٌ من المناطق الشعبية المكتظة بالسكان، إلى رشّاتٍ كثيفةٍ من قنابل الغاز المسيلة للدموع، كلما خرجت مجموعة صغيرة أو كبيرة من المتظاهرين إلى الشوارع. وكان الإطلاق في ذلك الشهر الكريم يمتد أحياناً حتى وقت السحور.
في الصباح يمكنك أن تعرف حجم الكميات التي تم إطلاقها من خلال مخلفات الليلة الماضية، من عبوات معدنية وخراطيش وكرات بلاستيكية حمراء وسوداء. كما يتبيّن صباحاً ما حدث من تكسير للأبواب والنوافذ، جعل الكثيرين يعيدون تسييج نوافذهم بشبابيك معدنية، أو استبدال أبوابهم بأبواب حديدية قد تصدّ الطلقات العشوائية. كما يتبين صباحاً ما لحق بسيارات الأهالي من تلفيات، خصوصاً تكسير الزجاج الأمامي والخلفي والمرايا الجانبية.
كل هذا مجرد لمحات سريعة لوقائع يومية تعيشها عشرات المناطق والأحياء، ويعاني منها عشرات الآلاف من المواطنين، في مناطق كانت ولاتزال تكافح للحصول على واقع سياسي أفضل، ينقل البحرين إلى رحاب الديمقراطية الحقيقية. وهي المناطق ذاتها – بالمناسبة – التي كافحت من قبل لإعادة البرلمان إلى الحياة فترة التسعينيات ودفعت كلفة ذلك من تضحيات أبنائها ونسائها.
هذه المناطق ليست قرى نائية، وإنّما يحفّ أكثرها بالعاصمة المنامة، ولا تبعد عنها أكثر من بضعة كيلومترات. وهي مناطق ذات كثافة سكانية عالية، وتمثل في مجموعها 64 في المئة من مجموع الكتلة الانتخابية، فإذا شاركت في الانتخابات ارتفعت نسبة المشاركة إلى التسعين في المئة، وإذا قاطعت انخفضت إلى الثلاثين.
هذه إذاً وقائع يومية وحقائق سياسية، وليس في هذا السرد تحريضٌ ولا تأجيجٌ ولا دغدغةٌ لمشاعر أحد كما قد يتوهم المتوهّمون، لأن الناس تعيش هذا الواقع غير الطبيعي وتحاول تغييره للأفضل عبر التظاهرات السلمية أو التجمعات الجماهيرية التي تضم الألوف.
قبل سنوات، كنا نكتب عن تلوث البحر ودفن السواحل وتدمير البيئة وخليج توبلي وغازات المعامير وفشت الجارم، واليوم نكتب عن تلوث أجواء هذه المناطق الشعبية المكتظة بالسكان، حيث أصبحت الشوارع ملّوثةً بروائح الغازات المستخدمة والمواد الكيماوية المهيّجة التي تبقى آثارها لعدة ساعات. هذه ليست دغدغة مشاعر، وإنّما هي صرخة احتجاج في وجه هذه العقوبات الجماعية التي يتعرّض لها عشرات الألوف من المواطنين، في إجراءات نادرة الحدوث على مستوى البلدان التي هزّها الربيع العربي.
الصحافة الحقيقية لا تفبرك ولا تختلق الأخبار، إنّما تعكس ما يجري على الأرض بدقة وأمانة وشرف مهني، قدر الطاقة والوسع. وخلال اليومين الأخيرين قرأنا أخباراً مع الصور، عن عوائل بحرينية من عدة مناطق، تعرضت منازلها لأضرار كبيرة إثر اختراق عبوات الغاز للنوافذ، ما تسبب بحالات اختناق، كما في جبلة حبشي وكرباباد وسترة وسند وبني جمرة والبلاد القديم والنويدرات. وقبل أسابيع نشرت الصحيفة خبر احتراق منزل في الصالحية (نصف كيلومتر غرب المنامة)، بسبب طلقة مسيل، وبصعوبةٍ أنقذ الأهالي الأسرة المكوّنة من عشرين فرداً بينهم أطفال، من ألسنة النيران. وفي حالاتٍ أخرى تسبّب الاختناق بالغازات إلى حالات وفاة لأطفال وكبار سن.
ألم يتضح بعد أن المعالجة الأمنية لأزمةٍ سياسيةٍ توصل دائماً إلى كارثةٍ وطنيةٍ وطريقٍ مسدودٍ مسدود؟