شيئاً فشيئاً تدُّخل الرأسمالية العولمية المتوحٍّشة المؤسسات الرياضية في لعبة الاقتصاد العولمي. فما أن تشٍّم رائحة تعلٌّق جماهيري شعبي باحدى الألعاب الرياضية، كألعاب كرة القدم أو التٍّنس أو الغولف على سبيل المثال، حتى تشيٍّئ تلك اللعبة وتقلبها إلى بضاعة استهلاكية قابلة للتسويق والمنافسة والدٌّخول في وهج وأكاذيب عالمي الإعلان والعلاقت العامة، وبالتالي الخضوع لنظام العرض والطلب.
اليوم، في السوق العولمي، الذي يرتبط به السوق المحلي كتابع مشلول الارادة ومقلٍّد، هناك ثمن للاًّعب، وثمن للنادي أو الفريق وثمن للمدٍّرب. والذي يحدٍّد الأثمان ويتفاوض بشأنها هي مكاتب السًّمسرة، والتي بدورها تربط السًّاحة الرياضية بأغنياء العالم المستثمرين أو المغامرين. ومكاتب السًّمسرة فيها استشاريون اختصاصيون يجوبون العالم ويرصدون الساحات الرياضية من أجل إنتقاء صغار اللاًّعبين الواعدين، من الأطفال والشباب، وخصوصاً في دول العالم الثالث الفقيرة، وذلك من أجل شرائهم كمادة خام ومن ثمًّ بيعهم على الأندية والفرق الرياضية الغنية بأغلى الأثمان. هناك، في أندية العالم المتقدم، يجرى تحويل المادة الخام الواعدة إلى بضاعة مصنًّعة جاهزة لعرضها في أسواق النًّخاسة الرياضية العولمية بواسطة مكاتب السًّمسرة إياها.
وكأيٍّ بضاعة فان ثمنها سيعتمد على مدى تعلًّق الناس بها ، وهذا التعلُّق تدرسه مكاتب السمسرة من خلال استطلاعات الرأي ورصد قوة أو ضعف حماس المشاهدين في ملاعب الرياضة لهذا اللاعب – البضاعة أو ذاك. من هنا التفاوت الهائل في أسعار اللاعبين المتنقٍّلين ابداً، كأيًّ بضاعة، من يدٍ الى يد أخرى. ومن هنا التٌّفاوت الرهيب في رواتب اللاعبين، فكلما كان اللاعب أكثر تميُّزاً وأكثر شعبية كلًّما كان مصدراً لدخل أكبر للنادي الذي اشتراه، وكان بالتالي أغلى ثمناً وأعلى راتباَ.
ولأنٌ اللاعبين هم عادة من الشباب الصٍّغار الذين يتمُّيزون بقلة الخبرة الحياتية وضعف الخلفية التعليمية وضحالة الثقافة فانهم يحتاجون لمن يساعدهم في تدبير أمورهم الحياتية المعقًّدة الجديدة الناتجة عن ثروة هائلة جنونية تتدفًّق في ايدي هؤلاء الشباب في فترات زمنية قصيرة جداً. هنا ومرة أخرى، يأتي دور مكاتب السًّمسرة. فهذه المكاتب تقوم باستثمار أموال هؤلاء اللاعبين لهم – وبترتيب إجراءات عرضهم للبيع والشٍّراء، وفي بناء علاقات عامة لإدخالهم في حلقات الأغنياء والمشهورين، وفي تفصيل الإعلان المناسب لجعلهم بضاعة محبوبة ومشتهاة وبالتالي غالية الثمن.
إنها باختصار عملية تفتيش عن مادة خام، تشترى بأبخس الأثمان، لتصنًّع وتصقل في مؤسسات إنتاج رياضية، ثم تتداول كسلعة جاهزة في بورصات الرياضة العولمية، ليجني في النهاية من جرًّائها المستثمرون والمغامرون والمضاربون الأرباح الخيالية والمكانة الاجتماعية الرمزية العولمية.
السؤال الذي يطرح نفسه بالحاح هو:
هل هناك فرق بين مكونات تلك التجارة الرياضية وعوالمها وبين مكونات وعوالم تجارة البغاء أو المخٍّدرات أو العمالة المهاجرة أو الفن أو ما كان مماثلاً لها في توفير إمكانية إستغلال الإنسان لأخيه الإنسان؟
إذن ما الفرق مثلاً بين سماسرة الرٍّياضة وسماسرة الرقيق الأبيض؟ ألا يقوم الإثنان بعمليات بيع وشراء لبضاعة إنسانية معروضة وجني الأرباح من ورائها؟ الا يقوم الاثنان بشبه امتلاك حقٍّ التصُّرف بتلك البضاعة من خلال عقود تخولهم وحدهم حقًّ البيع والشراء وحقًّ الحصول على عمولات فاحشة؟ ألا يقوم الاثنان بعمليات تزيين البضاعة واستغلال شتًّى أنواع الغرائز البدائية الفجًّة عند البشر لإقناعهم بدفع أثمان باهظة لإشباع تلك الغرائز؟ وإلاً كيف تصل أثمان تذاكر مشاهدة بعض مباريات كرة القدم إلى ألف دولار؟ ألا تنطبق تلك المقارنات المتماثلة في السمسرة على عوالم الغناء والسينما والفنون التشكيلية وتهريب العمال الفقراء المهاجرين؟ ألا يوجد في كل تلك العوالم السًّماسرة ومستغلُّو حاجات أوضعف الناس والبلهاء الذين يدفعون أغلى الأثمان لأتفه المتع؟ هل حقاً أن دفع أكثر من مئة مليون دولار لشراء لوحة فنيًّة هي عملية تذوٍّق فني؟
وإذن فما الذي ومن الذي سيستعصي على غوايات اقتصاد العولمة الحر، المنفلت من كل قيمة أخلاقية، الذي تحرك جزءاً متعاظماً منه ماكنة السمسرة، والذي يقتطع من الشعوب كل ماكان ملكاً لها ليضعه في يد أقلية صغيرة من المغامرين؟ ألم تكن مثلاً لعبة كرة القدم في الماضي غير البعيد لعبة شعبية بالغة البساطة والبراءة قبل أن تقلبها أيادي سمسرة الرأسمالية العولمية المتوحًّشة إلى مؤسسة مليئة بالشياطين واللصوص والرًّذيلة؟
لقد كتبت نورينا هرتز كتاب “الإستيلاء الصامت” لتظهر كيف أن الرأسمالية العولمية تؤدًّي إلى موت الديمقراطية. وكتب الفيلسوف جون جري كتاب “الفجر الكاذب” ليظهر الهلوسات المحيطة بالرأسمالية العولمية. وكتب الاقتصادي جوزيف ستيغلتز كتاب “العولمة ومثالبها” ليظهر مدى الضًّرر الذي تلحقه العولمة بمن تدًّعي أنها جاءت لتخدمهم. وكتب جورج مونبيون كتاب “الدولة الأسيرة” ليبرز سيطرة الشركات العولمية الكبرى على المجتمع البريطاني. ويستطيع الإنسان أن يذكر عناوين مئات الدراسات الأخرى من الغرب الراسمالي ومن خارجه.
كلًّ تلك المراجعة تسير على قدم وساق. أما عندنا، في أرض العرب، وعلى الأخص في مجتمعات اليسر البترولي، فان الليبراليين الصٍّغار الجدد، في الحكم وخارجه، يزدادون عناداً في استعمال أسوأ ما في الرأسمالية العولمية: فتح كل حقل ونشاط مجتمعي لمكاتب السمسرة العولمية. لقد سلًّموا حقول التربية والصحُّة والعمل والإسكان والإعلام والثقافة، بل حتى احتفالات المناسبات الوطنية، لمكاتب السًّمسرة لتديرها أو تنظُّمها أو تضع ضوابطها أو تبيع وتشتري فيها. فهل أن قصة سمسرة الرياضة ستكون درساً يوقظهم؟