د. حسن نافعة
تعيش مصر في هذه الأيام أزمة مركبة طالت جميع مؤسسات الدولة والمجتمع. فالبرلمان يبدو مكبلاً بالأغلال وعاجزاً تماماً عن أداء أي دور تشريعي أو رقابي حقيقي، رغم أنه جاء عبر انتخابات حرة نزيهة يصعب التشكيك في مصداقيتها. والحكومة تبدو بدورها مكبلة بالأغلال وعاجزة، حتى لو أرادت، عن القيام بأي مبادرة حقيقية لتحسين أحوال الناس والعباد، مهما كانت صغيرة، وبات واضحاً أنها لا تملك من أمر نفسها شيئاً، ولا تستطيع أن تخطو خطوة واحدة دون ضوء أخضر من مجلس عسكري يملك أمر تعيينها كما يملك أمر حلها في أي وقت دون إبداء الأسباب لأنه لا يخضع لأي نوع من المساءلة أو المحاسبة.
والمجلس العسكري يبدو بدوره مكبلاً بالأغلال، رغم أنه يملك نظرياً كل السلطات والصلاحيات، ويتصرف كأنه يعمل استجابة لنداء قوى خفية، محلية وإقليمية ودولية، يتعين أخذ مصالحها في الاعتبار، أو كأنه لا يستطيع تجاوز خطوط حمراء حددها هو لنفسه أو حددها له آخرون. ولأن هذه المصالح تبدو متوازية ومتناغمة أحيانا ومتعارضة إلى حد التناقض أحياناً أخرى، فمن الطبيعي أن تصاب حركته بالارتباك إلى حد العجز والشلل الكامل في أحيان كثيرة.
غير أن هذا الارتباك لا يقتصر في الواقع على المؤسسات الرسمية للدولة، فقد أصاب العجز والشلل كل مؤسسات ومنظمات المجتمع على كل المستويات والأصعدة. فهناك الآن أزمة ثقة عميقة بين الأحزاب والقوى والحركات السياسية التي كانت قد توحدت في لحظة ثورية رائعة لتصبح على قلب رجل واحد في مواجهة نظام مستبد فاسد، قررت أن تدك حصون ظلمه وطغيانه مهما كلفتها المواجهة معه من تضحيات، وها هي اتهامات متبادلة بالتكفير والتخوين تحل محل ثقة كانت تبدو في تلك الأيام الخوالي صافية لا تكاد تشوبها شائبة. وبعد أن كان الشعب والجيش «إيد واحدة»، والدبابات والعربات المصفحة تنتشر في الشوارع لتحمي ظهور ثوار راحوا يتسلقون ظهورها ليعانقوا أبناءهم وإخوانهم من الجنود والضباط، إذا بهما اليوم يتبادلان أقذع الشتائم والاتهامات: فالثوار أصبحوا في نظر المجلس العسكري عملاء يعملون لحساب مصالح ومخططات أجنبية، ويتلقون أموالاً من الخارج لضرب أمن مصر واستقرارها، والمجلس العسكري تحول في نظر الثوار إلى فلول تقود ثورة مضادة وتعمل على إعادة النظام القديم لكن بوجوه جديدة.
لم تقتصر أزمة عدم الثقة على الجهات الرسمية أو الشعبية العاملة في مجال السياسة وإنما امتدت لتشمل جميع المجالات والأطراف، ووصل الأمر إلى حد ضرب النشاط الرياضي وإثارة الفتن بين جمهور المشجعين لكرة القدم، وراح المجتمع المصري يتحول تدريجياً إلى غابة، وينزلق رويداً رويداً نحو وضع أشبه بحرب «الكل ضد الكل»! ولأن تلك الأجواء العبثية كانت من وجهة نظر البعض ضرورية لتمهيد الطريق أمام أحد أعمدة النظام القديم كي يتقدم بثبات نحو المقعد الرئاسي، فمن حقنا أن نتساءل عما إذا كان ما يجري في مصر الآن نتيجة طبيعية ومنطقية لأخطاء ارتكبت بحسن نية، ثم تراكمت بسبب افتقار المؤسسة العسكرية خبرة سياسية تمكنها من إدارة شؤون البلاد خلال مرحلة انتقالية، أم أنه على العكس نتيجة مؤامرة محكمة سابقة التجهيز ارتكبت عمداً ومع سبق الإصرار والترصد؟
أعتقد أنني أصبحت الآن أكثر ميلاً إلى الاعتقاد بأن ما يجري في مصر الآن لا يمكن أن يكون نتاج مصادفة أو أخطاء غير مقصودة وأنه تم وفق مخطط أعد سلفاً. بل إنني لا أتردد في القول إن قرار الرئيس المخلوع بالتنحي عن السلطة وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد لم يكن سوى الخطوة الأولى على طريق تنفيذ مخطط شرير استهدف إجهاض الثورة بالعمل على ثلاثة مستويات:
1- فك الارتباط بين القوى التي فجرت الثورة والقوى التي أسهمت في إنجاحها.
2- إبعاد القوى الثورية الحقيقية عن مراكز صنع القرار، والتمكين للقوى المرتبطة بالنظام القديم من خلال وجوه انتهازية جديدة لضمان عرقلة أي سياسات إصلاحية تلمسها الجماهير على الأرض.
3- عزل الأغلبية الصامتة عن القوى الثورية الحقيقية، تمهيداً لتشويه الثوار وتحميلهم مسؤولية المعاناة التي يتكبدها الشعب، خاصة ما يتعلق منها بافتقاد الأمن وتدهور الأوضاع المعيشية.
لقد بدأ هذا المخطط الشرير، في تقديري، بتشكيل لجنة لتعديل الدستور. ويكفي أن نتذكر أن الرئيس المخلوع كان قد قبل مضطرا، قبل أيام محدودة من تنحيه، بضرورة القيام بإصلاحات سياسية تبدأ بتعديل الدستور، وشكّل بالفعل لجنة لهذا الغرض من كبار فقهاء القانون الدستوري، وهو نفس النهج الذي سار عليه المجلس العسكري فيما بعد. كل ما في الأمر أن تشكيل اللجنة التي تمت في عهد المجلس العسكري، والتي ضمت أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين أو متعاطفين معها، اختلف عن تشكيلها في عهد «مبارك»، الذي تم وفق أسس أكثر مهنية وأقل أيديولوجية.
ولأن إصلاح النظام كان أمراً مقبولاً في وجود «مبارك» ومرفوضا بعد رحيله، فقد تنبه كثيرون إلى خطورة الإقدام على إجراء هذه التعديلات وطالبوا بدستور جديد يؤسس لنظام ديمقراطي حقيقي، دون أن يكون لذلك علاقة من قريب أو من بعيد بالموقف من التيار الإسلامي أو بالمادة الثانية. لذا بدت حملة التيار الإسلامي ضد الرافضين للتعديلات الدستورية والمطالبين ﺑ«الدستور أولاً» مذهلة في عنفها وغير مبررة. ولأنه ما كان يمكن للتعديلات التي أُقرت بالفعل أن تمر دون عملية تعبئة جماعية وشاملة لكل فصائل التيار الإسلامى، لم ينتبه كثيرون إلى حقيقة لعبة شد الحبل التي كانت قد بدأت منذ ذلك الحين بين الإخوان والعسكر.
فالإخوان أرادوا انتخابات برلمانية بسرعة لتدعيم قوتهم السياسية رسميا على الساحة السياسية في مرحلة ما بعد الثورة، أما العسكر فلم يكن لهم من هدف سوى تفتيت القوى التي ساهمت وحدتها في حماية الثورة. ولأن المؤسسة العسكرية لم تكن معنية من قريب أو بعيد لا بحماية المادة الثانية من الدستور، التي لم تكن مهددة على أي حال، ولا بالتمكين لفصائل تيار إسلامي كانت قد ناصبته العداء على مدى ستة عقود متتالية، فقد كان من الطبيعي أن يحاول كل منهما توظيف الآخر لحسابات تخصه هو دون غيره. وأمكن في هذا السياق التآمرى استدراج فصائل التيار الإسلامي للنزول بكل ثقلها وراء فكرة التعديلات الدستورية، ولإجهاض أي محاولة للبدء بجمعية تأسيسية تتولى كتابة دستور جديد كان يمكن أن تعمل في ظروف أفضل كثيراً من الظروف الحالية.
لقد تصورت فصائل الإسلام السياسي أنها كسبت رهانها لأن التعديلات الدستورية منحتها الفرصة للحصول على أغلبية كاسحة في البرلمان، لكنها لم تتبين – سوى مؤخرا- أن هذه الأغلبية عديمة الجدوى الحقيقية. فالمجلس العسكري هو الذي يمسك بمقاليد السلطة الفعلية، ووجود أغلبية إسلامية كاسحة في البرلمان، ولكن عاجزة، يضعف من بريق تيار الإسلام السياسي ويعري نهمه للاستحواذ على مقاليد السلطة. ولأنه قليل الخبرة وكثير الأخطاء، فمن الممكن محاصرته سياسياً وجماهيرياً إذا أمكن استغلال وتوظيف حوادث معينة (بتركيز الإعلام على غرابة الأذان في مجلس الشعب، وعلى فضيحة «البلكيمي»، وعلى رفض بعض السلفيين الوقوف حداداً على البابا في مجلس الشعب، وأخيراً الكشف عن حصول السيدة والدة المرشح المحتمل حازم صلاح أبوإسماعيل على الجنسية الأمريكية قبل وفاتها).
ولأن المجلس العسكري كان في أمس الحاجة لإلهاء الفصائل الإسلامية عما يدبره لتشويه الثورة والثوار، من خلال إثارة الاضطرابات في مصر من أقصاها إلى أقصاها، فقد كان من السهل جدا على قوى الثورة المضادة استغلال أجواء الاحتقان السياسي والاجتماعي والطائفي في مرحلة ما بعد الثورة لتدبير سلسلة من المؤامرات والجرائم، بدءً بأحداث إمبابة والبالون، ومرورا بأحداث ماسبيرو ومجلس الشعب، وانتهاء بمجزرة بورسعيد.
وفي سياق هذه الأحداث المشحونة بالتوتر والمؤامرات، أمكن دفع مصر الثورة إلى الحالة البائسة التي هي عليها الآن والتي دونها ما كان يمكن للسيد عمر سليمان أن يتهيأ لتقديم أوراقه للترشح للمنصب الرئاسي. فهناك برلمان يسيطر عليه التيار الإسلامي لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئا، وهناك جمعية تأسيسية يهيمن عليها التيار نفسه، لكن باتت عاجزة تماما بعد أن انسحب منها الكثيرون، بمن في ذلك ممثلو الأزهر والكنيسة والمحكمة الدستورية، وعندما حاولت الجماعة أن تسحب الثقة من البرلمان وجدت نفسها أمام حائط مسدود، فردت بترشيح خيرت الشاطر، فألبت على نفسها جميع التيارات الأخرى، بما فيها التيار السلفي. لينتهي بذلك شهر العسل بين الإخوان والعسكر، وليصبح التيار الإسلامي مرشحاً لخسارة كل شيء في النهاية.
أليس من المثير حقا أن يبدو السيد عمر سليمان اليوم، وبعد كل ما ارتكبه النظام السابق من مآس، كأنه جمال عبدالناصر آخر ترى فيه الجماهير أملها الوحيد المتبقي لإخراجها من النكسة الجديدة التي ألمت بها حتى ولو كان هو أحد كبار صانعيها؟ أليس ذلك من المضحكات المبكيات؟
لقد سقطت الأقنعة وانكشف المستور، لكن فصول المؤامرة لم تنته بعد، فلاتزال لها بقية، لأن الكلمة النهائية لاتزال في يد الشعب سيقولها في الانتخابات الرئاسية المقبلة التي لا يمكن للسيد عمر سليمان أن ينجح فيها إلا بالتزوير.