علي محمد فخرو
ما يفعله أغنياء البترول العرب بثروة البترول من بطر وتبذير في بذخ أسطوري مبتذل لم يعد مقبولاً لا بمقاييس الأخلاق ولا الذوق الرفيع ولا أحكام الدين. وهي أفعال تتساوى في مساوئها وسقوطها في سلم القيم الإنسانية على مستوى الأفراد والمسئولين في مؤسسات الحكم المختلفة.
على مستوى الأفراد لا يحتاج المراقب لأكثر من التجوال في شوارع لندن التجارية ومناطق سكنها الفاحشة الأثمان ليرى العجب العجاب. فإنْ يسوق شباب خليجيون سيارات فارهة مطلية بالذهب وتصل أسعار بعضها إلى أكثر من مليون جنيه استرليني، أو أن يفاخر أحدهم بأنه اشترى رقم سيارته في مزاد علني في بلاده بتسعة ملايين جنيه، أو أن يتبختر أحدهم بأنه نقل سيارته الأعجوبة من بلاده إلى لندن بواسطة طائرته الخاصة، أو أن يزور أحدهم متجر مجوهرات فلا يخرج منه إلا وقد صرف عشرين مليون جنيه، أو أن يدفع بعضهم مئة مليون جنيه لشراء شقة فاخرة تطل على منتزه هايدبارك… فإنْ يحدث كل ذلك من قبل أناس لم يمارسوا قط الإنتاج أو الإبداع أو العمل المضني فإنه بطر مجنون لابد من طرح ألف سؤال وسؤال بشأنه كظاهرة فرضية تثير الغثيان، ولابد أيضاً من مساءلة المجتمعات والأنظمة السياسية التي فرّخت تلك الظاهرة العبثية.
على مستوى الحكومات تعبت الأقلام وجفّ حبرها وهي تكتب عن عبثية الصرف على شراء أسلحة لا تستعمل، وعلى إعلام يهبط بأذواق الناس ويكذب عليهم ويقودهم إلى جحيم الصراعات المذهبية والقبلية والعرقية، وعلى قصور ويخوت وطائرات خاصة عَزَّ نظيرها في قصص ألف ليلة وليلة، وعلى اقتصاد ريعي لا يبني تنمية إنتاجية – معرفية مستدامة، وإنما يلعب بالمال البترولي في ساحات القمار والمضاربات العقارية والأسهمية، من ثم تذرف الحكومات الدمع على تراجع خدماتها الأساسية الإنسانية في حقول الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية للأطفال والمسنين والعجزة والمهمشين والفقراء، وماذا تفيد دموع التماسيح وعجز الإرادة.
لكن دعنا نورد لهؤلاء وأولئك ما حدث لدولة الأرجنتين، دولة السمن والعسل في القرن التاسع عشر، فلعلنا نأخذ العبر قبل فوات الأوان. يذكر الكاتب الإنجليزي ألن بيتي في كتابه «الاقتصاد الكاذب» الذي يراجع تاريخ الاقتصاد في العالم، بأن الاقتصاد الأرجنتيني كان مشابهاً إلى حد كبير وواعداً بنفس المستوى للاقتصاد الأميركي. لقد كانا كلاهما بلداً زراعياً وغنياً، لكن مع مرور الوقت استعمل الأميركيون فائض ثروتهم الزراعية الهائلة لبناء اقتصاد صناعي من خلال استيرادهم للفكر الصناعي الأوروبي. أما الأرجنتين فإنها استعملت فوائض ثروتها الزراعية الكبيرة لاستيراد بضائع البذخ والرفاهية من أوروبا ولصرف جزء كبير من تلك الثروة على حياة البذخ والابتذال التي عاشتها الأقلية الأرجنتينية الفائقة الغنى في مدن أوروبا. ونتيجة لذلك الفرق الهائل في الفهم والفعل بين البلدين انتهت أميركا بالتقدم الزراعي والصناعي والتكنولوجي الهائل الذي نراه أمامنا، بينما انتهت الأرجنتين بإعلان إفلاسها المدوي منذ عشر سنوات وهبوطها من عاشر اقتصاد في العالم في الخمسينات من القرن الماضي إلى البؤس الذي تعيشه الآن كدولة من العالم الثالث الذي يكافح ويتعثر في نموه.
الأغنياء في الأرجنتين الذين ملكوا ثروة بلادهم الأساسية، ولكنهم ببلادة وطيش أضاعوها عبر العصور، يشبهون إلى أبعد الحدود أغنياء البترول في بلداننا، من الذين يتحكّمون في ثروة هائلة وناضبة، ويمارسون نفس السفه: إنهم يكتفون باستيراد البذخ وعيش البذخ ويرفضون تنمية العلم والتكنولوجيا والإنسان واستيراد الأفكار العظيمة القادرة إلى الدفع إلى الأمام. إنهم سيدفعون بلداننا، عاجلاً وآجلاً، نحو نفس المصير الأرجنتيني: إضاعة فرصة تاريخية قد لا تعود، وانحدار تدريجي نحو الإفلاس الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
عبر قرنين من الزمن عرفت عواصم الغرب سفهاً أرجنتينياً أضاع البلاد وأفقر العباد، وذلك من قبل أقلية معتوهة جاهلة. اليوم تجول في عواصم الغرب لترى أقلية عربية معتوهة جاهلة تفعل الأمر نفسه وتقود نحو إضاعة البلاد وإفقار العباد.