قبل أيام غيب الموت المفكر والفيلسوف القومي العربي محمد عابد الجابري بعد 75 عاماً من العطاء الفكري والثقافي المتميز، والالتزام الوطني والقومي، وبرحيله فقدت الساحة الفكرية والثقافية في الوطن العربي، أحد أبرز وجوه الفكر العربي المعاصر، ورمزاً من رموز الثقافة العربية الأفذاذ، الذين جمعوا بين الفكر والعمل، بين الجهد الفكري والعمل النضالي.
من عرف الراحل الدكتور محمد عابد الجابري، سواء من خلال كتاباته المتعددة والمتنوعة، التي ملأت الساحة الفكرية والثقافية، أو من خلال المعرفة المباشرة عبر المشاركة في محاضراته وحواراته التي كانت تحرك وتجذب النخب الثقافية والجماهير العربية… نقول ان من عرف الجابري، سوف يرى فيه ذلك المفكر والفيلسوف من الوزن الثقيل وصوتاً مدافعاً عن الحرية والكرامة وعن العدالة الاجتماعية، وسيرى فيه ذلك المناضل الفذ المدافع عن الحريات وحقوق الإنسان، كما سيرى فيه الإنسان العروبي القومي، الشديد الإيمان والحماس لكل القضايا القومية.
فقد كان حضوره دائماً وبارزاً في قضايا الأمة التي تتطلب المواقف الصادقة والصريحة، فقد كان نصيراً قوياً للقضية الفلسطينية ومقاومتها وانتفاضتها، وكان مع العراق ضد العدوان والحصار والحرب والاحتلال، وكان مع لبنان في مواجهة العدوان الصهيوني.
عندما تقرأ كتابه "حفريات في الذاكرة من بعيد" سوف تقف أمام مسيرة عصامية قل نظيرها، مسيرة متعرجة وحافلة فيها الكثير مما يلهم المرء ويعلمه، وعندما تمضي معه في "عملية الحفر" كما يسميها في كل مراحل حياته، منذ الطفولة والمراهقة والشباب حتى سن الشيخوخة، سوف تعرف معنى أن تكون الحياة حافلة وقاسية تلك التي حملته من مسقط رأسه في بلده "فكيك" في أقصى المغرب إلى الرباط، والدار البيضاء للحصول على دبلوم الدراسات العليا والدكتوراه الدولة في الفلسفة، ثم إلى دمشق وباريس، عمل في كل الأوقات وفي كل الاتجاهات في سبيل العلم والمعرفة، عمل في الصحافة، عمل بصورة جبارة في مجالي البحث والعمل الأكاديمي المنظم، كما عمل في السياسة من دون أن يحترف السياسة كان يرى فيها (السياسة) التزاما ونضالا ولم يرَ فيها وسيلة أو مدخلا للمناصب أو المواقع، لذلك ظل زاهداً فيها ولكنه بقي وفياً، للحزب الذي ارتبط به "حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" حتى ان هناك من يعتبره الشخصية المؤثرة والواسعة النفوذ في الحزب بل هناك من يتحمس له ويعتبره القائد الفعلي للحزب.هذا المفكر والفيلسوف الذي طبقت شهرته الآفاق، بدأ حياته راعياً للغنم وهو طفل ابن ثماني سنوات، كانت هذه البداية في مدينة أو واحة "فكيك" في أقصى شرق المغرب عند خط الحدود الذي أقامه الفرنسيون بين المغرب والجزائر، قبل أن يتدرج في العلم والمعرفة والثقافة، حتى صار نجماً وعلماً في التصدي لأهم القضايا والإشكاليات الكبرى للفكر الإنساني والفلسفي، وصار ملء السمع والبصر في العطاء الفكري الذي يجمع بين الفكر الإنساني بمعناه الواسع والفلسفات قديمها وحديثها، وخاض في مناهج العلوم الفلسفية، ودرس فكر ابن خلدون، وأبحر في قضايا التراث، ووضع مشروعاً متميزاً في تفسير القرآن.
تلازم تعليمه مع وعيه السياسي، فالعلاقة بين الوطنية والسياسة بالنسبة إلى الجابري كانت وليدة تحول هام طرأ في حياته وعندما كان طفلاً، هناك كانت بداية مشواره مع الوطنية يوم قرر والده نقله من المدرسة الفرنسية التي كان يدرس فيها إلى مدرسة "النهضة المحمدية" في "فكيك" لأن الوطنيين الذين يناهضون الاستعمار الفرنسي كانوا يؤمنون بصورة قاطعة بأن بقاء أبنائهم في "المدارس الفرنسية" سيطفئ فيهم جذوة الروح الوطنية، كما كانوا يعتقدون أن الانتساب إلى المدارس الفرنسية ينطوي على نوع من "الخروج عن الطريق" وعلى نوع من "العقوق" بالدين والوطن، لذلك تم نقل الطفل "محمد" إلى مدرسة "النهضة المحمدية" التي أسسها الوطنيون.
لذلك يقول الجابري: ان الالتحاق بتلك المدارس كان يعني تلقائياً أن التلميذ أو المدرس قد انضم إلى حزب "الاستقلال" حزب الوطنيين في تلك الأيام.
ويقول عن نفسه أيضاً "انه أمضى حياته بين الانقسام إلى تيارين متوازيين، متداخلين ومنفصلين في الوقت نفسه، تغمر أحدهما تجربة سياسية، وتغمر الآخر اهتمامات وهموم ثقافية" انظر جريدة الشرق الأوسط – طلحة جبريل – العدد 11483- الجمعة 7/5/2010م).
في بداية التسعينيات كنا نحن في نادي العروبة مهمومين بالواقع الذي تعيشه الأمة والمنطقة، متوجسين من مخاطر المجهول الذي يحيق بتاريخ ومستقبل الأمة العربية وبهويتها القومية، كانت المنطقة تعاني تداعيات حرب عدوانية وحشية تعرض لها القطر العراقي الشقيق على يد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها وكانت القضية الفلسطينية تتعرض إلى عملية غدر جديدة في "مدريد" حيث تنصب لها الفخاخ للإيقاع بها في "شراك" تسوية مذلة ومهينة مع العدو الصهيوني.
وكانت المنطقة تعيش ذيول نهاية الحرب الباردة وانهيار ما يسمى بالكتلة الشيوعية (أو الاشتراكية) وانحسار المد التحرري في العالم الثالث، وسقوط حامل لواء الاشتراكية العالمية (الاتحاد السوفيتي) وكذلك تراجع فكرة القومية، وتزايد سهام الطعن الموجهة للعروبة.
كانت الأحداث تتسارع من حولنا، وكنا نرى غوائل وشرورا تتجمع نذرها هنا وهناك في كل أقطار الوطن العربي تتجلى في مظاهر التعصب الديني والمد الطائفي وكنا نلحظ دلائل التصدع والانكسارات التي تجتاح قلاعنا وحصوننا التي هي مستودع مخزون هويتنا الوطنية والقومية، باختصار كان هناك طوفان يقتلع كل شيء من حولنا، ويحطم كل الأشياء الجميلة داخل أعماقنا، نسيجنا الفكري، بناءنا الثقافي، ذاكرتنا القومية بالإضافة إلى كل المحاولات المحمومة الجارية لتشويه "العقل العربي" وإعادة تشكيله بعيداً عن مصالح وقضايا الأمة، فالعولمة المتوحشة كانت تفترس كل مقدرتنا السياسية والاقتصادية والثقافية.
لذلك كنا في نادي العروبة نتحرك في كل الاتجاهات للقيام بدورنا وواجبنا الوطني والقومي لوقف حالة الانهيار وتثبيت الأقدام والصمود في مواجهة تلك الهجمة الشرسة على قيم ومبادئ العروبة.
كنا نبحث عن طرق ووسائل لوقف حالة الإحباط واليأس التي اجتاحت بعض النخب المثقفة، التي تخلت عن دورها ومسؤوليتها، ووقفت تتفرج على أمة جراحها تنزف وترابها يستباح.
لكل هذه الأسباب، كنا قد قررنا في مجلس إدارة نادي العروبة بقيادة الراحل العزيز جاسم فخرو، وضع برنامج ثقافي يناسب خطورة الواقع ويستوعب قسوة الظروف التي تمر بها المنطقة العربية، وكان هذا البرنامج بكل مكوناته وعناوينه وأهدافه يقوم على فكرة إبقاء جذوة الوعي القومي مشتعلة، وكسر بعض الحواجز التي كانت تحجب الرؤية الصحيحة والمنصفة، كنا نريد استعادة الوعي الذي ينتصر للحق ويدافع عن الحقيقة، في زمن صار فيه الباطل والزيف هما سيدا الموقف، وعندما وضعنا قائمة بأسماء الكتاب والمفكرين القادرين على إنجاز تلك الأهداف، كان الراحل المفكر القومي الدكتور محمد عابد الجابري في صدارة تلك الأسماء لأن الجابري يمتاز عن غيره من المفكرين والمثقفين بقوة مواقفه، وبرسوخ التزاماته تجاه قضايا الأمة وتحررها ووحدتها، كما أنه يتمتع بصلابة وطنية وخلقية، وبقدرٍ عالٍ من النزاهة والاستقامة.
كل هذه الصفات كانت قد حسمت قرارنا باستضافته في البحرين من دون تردد، وهكذا تم فتح خطوط الاتصال معه بصورة عاجلة، وجاءت استجابته المرحبة والسريعة لدعوة نادي العروبة لتسهل من إجراءات ترتيب قدومه.
وعندما حل ضيفاً على نادي العروبة في 14 نوفمبر من عام 1992 وأقام بيننا فترة تزيد على الأسبوع، كانت فرصة هامة وتاريخية بالنسبة لنا لجعل هذا الأسبوع أشبه بالمهرجان أو الكرنفال الثقافي، كانت بداية الفعاليات هي زيارات ولقاءات الدكتور الجابري مع القيادات السياسية في البلاد، وفي اليوم التالي جرى افتتاح الموسم الثقافي بالمحاضرة الكبرى في نادي العروبة وشارك فيها عدد من الوزراء وجمع غفير من المثقفين والمهتمين.
كما شهدت جامعة البحرين حواراً مفتوحاً بين أساتذة الجامعة والدكتور الجابري حول عدة قضايا فكرية هامة دارت حول إشكالية الفكر والرؤى الفلسفية للمفكر الجابري وحول مشروعه في نقد العقل العربي.
كما حصل لقاء صحفي فكري مع عدد من الأساتذة والصحفيين. من هنا تتضح أهمية تلك الزيارة وفعلها الإيجابي سواء من خلال ما شهدته قاعات نادي العروبة من محاضرات ولقاءات متعددة أو من خلال حواراته مع أساتذة الجامعة ومقابلاته مع المسئولين في وزارة الثقافة والإعلام، وكذلك زياراته لبعض المؤسسات والجمعيات الوطنية والثقافية مثل أسرة الأدباء والكتاب وجمعية الاجتماعيين البحرينية حيث ألقى محاضرة حول التطرف والموقف العقلاني للثقافة العربية الإسلامية، بالإضافة إلى تفاعل أجهزة الإعلام من تلفزيون وإذاعة وصحافة مع هذا الحدث أو العرس الثقافي، كل ذلك قد أشعرنا بأن بعض ما كنا قد خططنا له بدأ يطرح ثماره، ويؤتي أكله، فقد استطعنا فتح ثغرات في ذلك الجدار الحاجب للرؤية وللعقل وإشاعة بعض الضوء وسط تلك العتمة التي كان يحاول البعض إبقاءنا فيها، وإعادة بث نسائم الثقافة الوطنية والقومية التي تخاطب العقل والفكر وتنمي الوعي والوجدان، وتتصدى لدعاوى الخضوع والاستسلام.
في العموم فقد شكلت هذه الزيارة بكل تفاصيلها والفعاليات التي تخللتها نقطة انطلاق جديدة لمسيرة النادي الوطنية والثقافية.
في محاضراته الرئيسية بقاعة نادي العروبة، التي حملت عنوان "واقع العرب في ظل النظام الدولي الجديد" تحدث الجابري عن المشروع النهضوي العربي، ومعوقاته، تحدث عن القضايا الأساسية التي شكلت قوام فكر النهضة العربية مثل الوحدة ورفض التبعية ونشر التعليم، وتحرير المرأة، ومحاربة مظاهر التخلف في الفكر والسلوك، والوقوف في وجه الظلم والاستبداد وهي القضايا التي مازالت مطروحة اليوم ومازالت أهدافاً ومطالب تنتظر التحقيق.
تحدث عن قضية الوحدة في الوطن العربي، وقال: ان الوحدة في الوطن العربي قائمة فعلاً، وان بصورة ما على مستوى الثقافة، مستوى اللغة والتراث والفكر والأدب، وهذه الوحدة الثقافية هي العنصر الموحد للعرب في الوقت الراهن على الأقل – العنصر الذي يحرك الطموح إلى وضع تكون الوحدة الاقتصادية من مقوماته الأساسية.
كان يؤكد أن من جملة المهام المستعجلة التي يتعين انجازها على طريق وحدة وتقدم العرب، وبالشكل الذي يمكنهم من الصمود أمام التحديات الراهنة والمنتظرة ومواجهتها بنجاح، إعادة النظر في مضمون هذين الهدفين (الوحدة – التقدم) وترتيب العلاقة بينهما ترتيباً عقلانياً يعتمد معطيات الواقع الموضوعي والإمكانات الذاتية العقلية.
ولابد للمشروع الحضاري العربي أن يؤسس ذاته على خيارات استراتيجية ثلاثة هي الوحدة والتقدم والعقلنة، ذلك لأن المستقبل العربي، مستقبل العرب ككل ومستقبل كل قطر عربي رهين بما سينجزه العرب في إطار هذه الخيارات الاستراتيجية، التي هي اليوم أكثر من أي وقت مضى تمثل ضرورة تاريخية.
الخيار الأول هو السير في طريق تحقيق وحدة عربية حقيقية اقتصادية، وسياسية وثقافية، ففي ظل المعطيات الراهنة لا يعتقد أن هناك قطراً عربياً واحداً يستطيع الادعاء بإمكانية أن يستقل بنفسه متحرراً من نفوذ الخارج فإما السير في طريق الوحدة وبالتالي طريق الاستقلال، وإما مواصلة طريق التبعية لمراكز الهيمنة الخارجية وليس هناك طريق ثالث.
الخيار الثاني، هو طريق "تمدين" المجتمع العربي أي تحويله إلى مجتمع مدني، لأنه من دون تقليص مظاهر "البداوة" إلى أقصى حد لا يمكن الحديث عن مشروع حضاري، والمقصود هنا بـ "البداوة" بمعناها الواسع الذي يشمل العمران والاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والفكر.
أما الخيار الثالث، فهو السير في طريق "عقلنة" الحياة العربية بمختلف مظاهرها، فهذا الخيار يمثل ضرورة تاريخية أيضاً، ليس فقط لأن الحضارة المعاصرة تقوم كلها على التنظيم العقلاني، لكل مواقف الحياة، بل أيضاً لأن العقل العربي المعاصر مازال يحمل بين طياته رواسب كثيرة متنوعة من صنوف اللامعقول، الموروث من عصور الانحطاط في الحضارات السابقة على قيام الدولة العربية الإسلامية، إضافة إلى ما أنتجه وكرسه عصر الانحطاط في حضارتنا نفسها.
هذه هي المقومات الأساسية للمشروع الحضاري العربي، التي يؤكدها الجابري، فمادامت هذه المقومات قائمة كنزوعات تستحث الفكر والعمل فالعرب سيظلون مشروعاً للمستقبل، أما إذا ماتت فيهم هذه النزوعات الثلاثة فإنه سيكون من لغو الكلام الحديث عن "مشروع حضاري عربي".
ان العرب من دون هذه المقومات الثلاثة سيخرجون نهائياً من التاريخ، إلى عالم بلا تاريخ، عالم مسلوب الماضي والحاضر والمستقبل، عالم لا هوية محددة له.
ومع هذا التحليل لتاريخ الفكر العربي وللثقافة العربية الذي يدعو إليه الجابري، فهو يرى ان الأخطار والتحديات التي تفرض على العرب، والإخفاقات التي يتعرض لها المشروع النهضوي العربي يرى فيها تحولات لا ينبغي لنا أن نرى فيها نهاية التاريخ ولا أن نجعل منها مقبرة للأمل، إن المراجعة النقدية ضرورة ملحة لاستعادة الأمل واستئناف المسيرة مع التاريخ للمشاركة في صنعه والتأثير في مجراه.
فقد كان محمد عابد الجابري رحمه الله مهموماً بإعادة بناء الفكر العربي، وتجديده من أجل أن تستعيد الأمة العربية قدرتها على الفعل الحضاري من دون اغتراب عن ماضيها أو انسلاخ عن هويتها.
لا شك أن رحيله يعد خسارة كبيرة للأمة العربية، ولكن عزاءنا ما تركه لنا من تراث معرفي زاخر وثمين، وكذلك إسهاماته من أجل بناء الوعي والنضال من أجل الحق والعدالة، والنضال ضد الاستعمار والغزو الخارجي ومواجهة الاستبداد والفساد.
للفقيد الكبير واسع الرحمة ولأسرته ولأمته خالص العزاء.
إنا لله وإنا إليه راجعون.