عبد الاله بلقزيز
تلوح في أفق المنازعات الدولية، اليوم، ملامحُ استقطاب سياسي جديد يعيد توزيع علاقات القوة، بين قطبين كبيرين، بعد ردحٍ من الزمن، امتدّ إلى عقدين، سادت فيه حقبةٌ ظَلْمَاءُ من الأحادية القطبية (الأمريكية، الغربية) أعقبت نهاية الحرب الباردة، وانفراط المنظومة الاشتراكية، وانهيار الاتحاد السوفييتي . من المبكّر، اليوم، أن يقال إنّ ثنائية قطبية جديدة تنشأ في النظام الدولي، على مثال سابقتها التي نشأت وامتدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الحرب الباردة (1945 – 1990)، غير أن بعضاً من قسماتها السياسية يتكون – في الفترة الزمنية الأخيرة – وتتبيّن علائمُه من اشتداد حدة التناقضات والخلافات، داخل قوى النظام الدولي الكبرى، بين الولايات المتحدة الأمريكية، وحليفاتها الغربيات، من جهة، وروسيا والصين، من جهة أخرى، وانتقالها إلى التعبير عن نفسها بحدّةٍ شديدة داخل مجلس الأمن، بمناسبة الأزمة السورية؛ من خلال الاستخدام المتكرر لحقّ النقض (الفيتو)، من قِبل روسيا والصين، لإسقاط قرارات أمريكية وغربية ضد النظام السوري .
من النافل القول إن موقف كلّ من روسيا والصين، اليوم، لم يصل بعد إلى حدّ المواجهة مع الغرب، مثلما كان عليه أمرُ البلدين – متفرقيْن – في حقبة الحرب الباردة . فلا أحد منهما مستعدّ لإنزال قواته العسكرية في مواجهة القوى العسكرية الغربية، على نحو ما كان يستطيع الاتحاد السوفييتي أن يفعل في شرقي أوروبا، أو في كوريا، أو في فيتنام، أو كوبا، أو أنغولا، أو كما فعلت صين ماوتسي تونغ في كوريا وفيتنام . بل إنه قد لا يصل إلى ذلك في الأمد المنظور؛ ليس مخافة صدامٍ عسكري مع الغرب، ولكن لأن منطق تداخُل المصالح الاقتصادية الدولية، فضلاً عن توازن القوى بين القطبين، لم يعد يسمح بالمواجهة العسكرية، بل هو لم يسمح بها، حتى في حقبة الحرب الباردة، إلا جزئياً وبالوكالة، أو من طريقٍ غير مباشر من خلال الحلفاء الإقليميين .
وإذا كانت حقبةُ الأحادية القطبية عُمرَتْ، في المجال السياسي، لما يزيد على عشرين عاماً انفردت فيها الولايات المتحدة الأمريكية بإدارة النظام الدولي، وصناعة القرار فيه، واستخدام مؤسساته لمصالحها ومصالح حلفائها في الغرب، فإن هذه الأحادية السياسية لم تُترجِم نفسها أحادية اقتصادية، أو قُلْ – للدقة – إنها سرعان ما انصرمتْ، في نهاية عقدها الأول، لتُخْلِيَ المجال أمام حالةٍ متصاعدة من التعددية القطبية في الميدان الاقتصادي والتقَاني والتجاري . فلم يكن قد هَل هلالُ هذا القرن حتى كان الاحتكار الاقتصادي الأمريكي – والغربي – ينكسر على إيقاع صعود قوى اقتصادية جديدة من خارج المدار الأمريكي – الأوروبي التقليدي، بل كانت توازنات القوى الاقتصادية – داخل الغرب نفسه – تتغيّر ويُعَاد تشكيلُها على نحوٍ من التكافؤ جديد عن ذي قبل . .
خرجت روسيا سريعاً، ولكن بعد مكابدة ومعاناة، من حال الانهيار والشلل الاقتصاديين التي أصابتها من جراء تفكك الاتحاد السوفييتي، والانتقال الفوضوي إلى الليبرالية الاقتصادية، والفساد المعمم الذي أطلَقَتْهُ – ورَعَتْهُ – مافيات النهب في عهد بوريس يلتسين . وخرج العملاق الصيني من قمقمه، فقفز، في بحر سنوات عشر، من القوة الاقتصادية التاسعة إلى القوة الثانية، في العالم، بعد الولايات المتحدة . ونشأت، في الأطراف الرأسمالية، قوى اقتصادية “عالمثالثية” كبرى جديدة، مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا . أما داخل المراكز الرأسمالية فحصلت تحوّلات مثيرة: نشأ الاتحاد الأوروبي كقوة اقتصادية تضارع الاقتصاد الأمريكي، وتراجعت اليابان إلى الخلف، وتعاظمت قوةُ الاقتصاد الألماني الذي تحول إلى محرك للاقتصاد الأوروبي، وأصيبت اقتصادات بريطانيا وفرنسا بالوَهَن والتآكل، وضربت الأزمة المالية الاقتصاد الأمريكي، ثم لم تلبث أن انتقلت إلى أوروبا فأصابت اقتصادات اليونان وإسبانيا وإيطاليا، وهي تهدّد بلداناً أخرى مثلما تهدّد اتحاد أوروبا بالانفراط . .
ما كان من الممكن لظاهرة كبيرة، بحجم إعادة توزيع القوة الاقتصادية في العالم، أن تحصل من دون أن تترك آثاراً عميقة في مشهد التوازنات السياسية الدولية . من المفهوم ألا يستطيع الاتحاد الأوروبي ترجمة نفوذه الاقتصادي نفوذاً سياسياً؛ فهو إلى فسيفسائية تركيبه القومي، حَكَم على نفسه بالبقاء تحت المظلة الأطلسية التي تُرتّب عليه وصاية أمريكية مديدة . وليس ذلك ما ينطبق على حالتي روسيا والصين اللتين تجدان، اليوم، في التعددية القطبية اقتصادياً، مدخلاً موضوعياً نحو إعادة بناء نظام متعدّد الأقطاب، في السياسة، يعيد إليهما وإلى مصالحهما الاعتبار