د. حسن طوالبه
ما يجري في الاردن هذه الايام من حراك شعبي وصل حد الاصطدام مع قوات الامن والدرك، وسقط قتلى وجرحى من الجانبين، حصل ذلك على خلفية رفع اسعار المحروقات النفطية بنسب عالية تتراوح بين 20% و54%، وهذا الرفع جاء على خلفية وضع الميزانية المتدهور، اي العجز الذي تجاوز خمسة مليارات دولار. ووجدت الحكومة بمنطق حسابي يرضي صندوق النقد الدولي ان هذا الاجراء هو الاجراء الوحيد الذي يحل الازمة الخانقة، بالمقابل وجدت الجماهير انها ليست المسؤولة عن هذه الازمة بل الحكومات المتعاقبة التي ارخت حبالها للفاسدين ان ينهبوا ثروات البلد، ويبعوا املاكه للغير. فأين تكمن الازمة؟. صحيح ان الاردن يعاني ازمة اقتصادية حادة منذ سنوات، لاسباب عديدة منها :
1. الاقتصاد الاردني يتسم بصغر حجمه، وكونه مفتوحا يتأثر سلبا وايجابا بالضغوط الخارجية، فالصراع العربي الصهيوني اثر على البيئة الاقليمية كلها ومنها الاردن واقتصاده. كما ان العلاقات السياسية بين الدول العربية اثرت على الاقتصاد الاردني. والاحجام عن تقديم المساعدات العربية الخليجية يعود في كثير منها الى العلاقات بين هذه الدول وبين الاردن على خلفية الازمة في سوريا.
2. محدودية حجم الاقتصاد الاردني، قياسا الى مساحته وعدد سكانه، اضافة الى محدودية السوق المحلية، ولذلك سيطرت المؤسسات الاقتصادية المتوسطة والخفيفة.
3. محدودية الموارد الزراعية والصناعية. يتسم الاردن بانه بلد زراعي، كون سكانه ما زالوا خاضعين الى العادات والتقاليد التي يتسم بها المجتمع الزراعي. ومن المعروف ان اي بلدا زراعيا اذا لم ينتج محاصيل زراعية استراتيجية، اي لا ينتج القمح والشعير والذرة بكميات كبيرة تكفي السوق المحلية اولا ويصدر الباقي منها لايعد بلدا زراعيا.ومن هذا الوصف فان ثلاثة دول في العالم تتصف كونها بلدان زراعية هي : الولايات المتحدة وكندا واستراليا. وكذلك الحال فأي بلد لا يوصف انه بلد صناعي اذا لم يمتلك صناعات استرايجية،وعدد قليل من الدول هي التي تنتج صناعات استراتيجية.
4. هيمنة قطاع الخدمات على الاقتصاد في الاردن، اذ يشكل 67% من النتاتج المحلي. ويمكن ان يزداد دخل الاردن من الخدمات وخاصة السياحة والنقل اذا تم تسويق الاماكن الساسية والاثارية في الاردن الى العالم.اذ بلغ الدخل من السياحة للعام الجاري حسب قول وزير السياحة الحالي حوالي ملياري دولار لعام 2012، وتم تحسين وسائل النقل البرية والجوية والبحرية.
5. الدور الحكومي الكبير حيث استوعبت دوائر الحكومة حوالي 50% من الايدي العاملة، الامر الذي رتب المزيد من الانفاق من الناتج المحلي، كما تقوم الحكومة بالعديد من الخدمات في مجالات التعليم والصحة والمواصلات، هذا الدور ادى الى البطالة المقنعة داخل دوائر الدولة، الامر الذي قلل من الانتاج، واعطى فرصة امام التخاصية لان تأخذ الدور المهم في امتلاك دوائر الدولة المنتجة، مثل الفوسفات والبوتاس والاتصالات. فهذة المؤسسات تدر ارباحا بمئات الملاين من الدنانير سنويا.
6. غياب التخطيط الاستراتيجي في كل حقول الاقتصاد، ففي حقل الزراعة وبتوجيه من الحكومات زرعت الاراضي الخصبة بشجرة الزيتون بدلا من القمح والشعير والعدس وغيرها من المزروعات الصيفية. وهذا التوجيه حرم الاردن من اهم مادة في حياة الناس وهي القمح اذ لاينتج الاردن الان الا حاجة المواطنين لنصف شهر او شهر في الاكثر. مع العلم ان مساحات كبيرة من الاراضي يمكن ان تستصلح اذا تم توزيعها على المواطنين باسلوب التأجير او اي اسلوب اخر. او جلب مستثمرين محليين او من الخارج للاستثمار في مجال الزراعه.
7. اما الحديث عن الصناعة او الاستثمار بوجه عام فيواجه مشكلات عديدة رغم انفتاح الحكومة على المستثمرين، ولكنها مازالت مقصرة في سن القوانين التي تسهل مهمة المستثمرين الامر االذي اجبرهم الى الذهاب الى دول اخرى.كما ان الروتين والبيروقراطية السائدة في معظم دوائر الدولة تعطل مسيرة الاصلاح الاقتصادي.
8. الهدر الكبير في مصروفات الدولة المدنية او العسكرية، مع غياب الرقابة والشفافية على هذه المصروفات، فقد تصرفت الحكومات الاردنية المتعاقبة بمستوى الدول الغنية، اي السير في حياة الرفاهية العالية، من حيث المصروفات الخدمية كالسيارات والايفادات والحفلات وغيرها من سبل التبذير.
9. اضافة الى كل ما تقدم فقد وقع الاقتصاد الاردني ضحية حفنة قليلة العدد من المتنفذين وابناء العائلات المحسوبين على رأس النظام، حيث عاث هؤلاء فسادا في اموال الدولة بالسرقة والسمسرة والرشوة، وهذه الفئة من اجل ضمان مصالحها الذاتية سهلت كل عمليات بيع ممتلكات الدولة من اراضي ومؤسسات مثل الفوسفات والبوتاس والعقبه والبحر الميت، بحيث بات المواطن يخاف في المستقبل ان لا يجد رصيف شارع غير مباع.
10. المشكلة الاهم هي غياب التخطيط ووضع الاستراتيجيات في كل الحقول التي تصب في الانتاج المحلي. بل صار الاعتماد على المعونات الخارجية هو السمة البارزة في مسار الحكومات المتعاقبة. ويعود هذا الامر الى كثرة تبدل الحكومات، اذ لايبقى بعضها في كرسي المسؤولية مدة اشهر محدودة، وعلى سبيل المثال فقد شهد الاردن خلال السنوات العشر الماضية حوالي احدى عشر وزارة. وفي هذا السياق اضرب مثلا واقعيا. في حقبة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة كانت الحرب على اشدها بين المخابرات الامريكية (السي اي ايه) والمخابرات السوفيتية (الكي جي بيه)،وقد تمكنت (السي اي ايه) من كسب وزير الصناعة السوفيتي، وكانت مهمته تتلخص في الاتي " عدم ابقاء مسؤول مؤسسة صناعية في مكانه مدة طويلة ". ونتيجة هذا الامر اهتز الاقتصاد السوفيتي. هذا المثل يؤشر لنا مقدار خطور تبدل المسؤولين وعدم ثباتهم لمواصلة تنفيذ الخطط والبرامج.
عندما تفاقمت الازمة الاقتصادية الحالية وقبلها الازمات خلال العقود الماضية لم تجد الحكومات غير جيب المواطنين لسد العجز في الميزانية او سداد الدين الخارجي الذي لا احد يعرف مقداره بالضبط، والذي يقال انه وصل الى 20 مليار دولار.بحيث صارت الدولة عاجزة عن سداد فائدة الدين.
القرار الاخير الذي اتخذه رئيس الوزراء عبدالله النسور الذي كان قبل تسلمه رئاسة الوزراء محسوبا على صف المعارضة، هو من هذا التصنيف، اي حل المشكلة من جيب المواطنين الذين ما لديهم ما يكفي لاطعام ابنائهم، وقد حاولت الحكومة استرضاء المواطنين بتعويضات مالية لاتسد ثغرة من مستلزمات المواطن اليومية، اي ان التعويض بلغ 18 قرشا لليوم الواحد، وهذا المبلغ لايكفي سد اجور نقل مواطن من بيته الى مكان عمله. فهذا القرار فجر الاحتقان في نفوس المواطنين منذ زمن،واختلط الحابل بالنابل، اي اختلط الحراكي الكريم مع اصحاب الغرض السئ الذين وجدوا فرصتهم في التخريب ارضاءا لاجندات خارجية او للسرقة والنهب،او لتأزيم الاوضاع لتاخذ مسارات غير المرسومة من قبل القوى التي سارت في الحراك السلمي طيلة السنتين الماضيتين.
السبب الاقتصادي الذي هيج الشارع الاردني وخرج المواطنون بالالوف طرحوا مطالبهم السياسية الاخرى، والمطالبة باصلاح جذري يبدأ بتعديل فقرات في الدستور تخص صلاحيات الملك، وتعديل قانون الانتخاب والغاء الانتخابات المزمع اجراءها بداية العام المقبل، والغاء قرار رفع اسعار المحروقات.
المسألة الان لم تعد بين التيار الاسلامي كما تقول وسائل الاعلام الرسمية، بل بين قطاع واسع من ابناء الشعب وبين النظام كله، الحراكيون مصرون على مواصلة الحراك السلمي حتى تتحقق مطالبهم، والحكومة تقول انه قرار لا رجعة عنه، فمن سينتصر في الاخر؟.
ان منطق التاريخ يقول ما فاز يوما طرف عادى الشعب، بل الشعب هو الذي ينتصر في الاخر، فكيف الحال اذا كان الشعب يطالب بلقمة الخبز والكرامة الانسانية. اما الانجرار الى ما سبق من تجارب في الدول العربية التي شهدت انتفاضات، اي الاستهانة بالشعب ووصفهم بنعوت كالتي اطلقها زين العابدين بن علي وحسني مبارك والقذافي، فان اللحاق بهذه التجربة الفاشلة سوف يقود البلد الى مسار يندم علية النظام وكل المستفيدين من السلطة.
ان مطالب الشعب حقيقية وعادلة وهي العيش بكرامة اي ان لايموت المواطن جوعا، والمنطق هو ايكال المسؤولية الى الشعب من خلال قواه الوطنية والقومية واليسارية، ولا يجوز الانجرار الى تخوين قوة سياسية او شيطنتها لاجهاض الحراك الشعبي، بل الحل هو دعوتها الى تسلم المسؤولية بدلا من طاقم الحكم الذي تناوب على السلطة منذ الاستقلال حتى اليوم. ولو اوكل الملك هذا الامر الى الشعب من خلال ممثليه الحقيقين، وطلب منهم وضع حلول للازمة خلال مدة من الزمن، وصدرت قرارات توافقية، وتم تثقيف الشعب عليها، لما ثار الشعب غضبا كما حصل خلال الايام الماضية. ولكن الحكومة اكتفت بلقاءات سرية وفي غرف مغلقة مع بعض القوى السياسية ومنها جماعة الاخوان المسلمين، لم تخرج بنتائج مهمة تقود الى حل الازمة.بل تشبث كل طرف بموقفه، واشتدت المهاترات والاتهامات،حتى وصلت الاوضاع الى شفى جرف هاري.
ان التراجع عن قرار رفع الاسعار لن يكون الا اذا قدمت دول الخليج منحة سخية بدون شروط مسبقة، وتم التوافق على استراتيجية للنهوض بالاقتصاد الاردني وتجاوز الازمة، وهذا الحل لا يكون الا اذا تسامى كل طرف فوق الانانيات والعقد، ووضع الجميع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.