بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أولى لك أن تتألم لأجل الصدق من أن تكافأ لأجل الكذب
مثل غربي
الانتماء للحزب بين النوعية والكمية
ان موضوع وحدة الحزب وكيفية حمايتها هو من القضايا المركزية في اي حزب، خصوصا حينما يكون الحزب ثوريا وعقائديا وليس ليبراليا، لانه بدونها لا يستطيع المحافظة على وجوده وادامة قوته ولا ان ينظم نفسه بطريقة فعالة للقيام بدوره المفترض. وفي اطار مفهوم وحدة الحزب يجب التمييز بين حزب ثوري وحزب غير ثوري، وحزب تاريخي وحزب غير تاريخي لان هذا التمييز سيسمح لنا بالحصول على رؤية صورة واضحة وبلا تشويش.
ما المقصود بالحزب الثوري والحزب التاريخي؟
الحزب الثوري هو الحزب الذي يحمل اهدافا جذريا تتمحور حول احداث تغيير جذري في المجتمع ينقله من حالة الى حالة نقيضة له كليا، وهذه الطبيعة هي التي تجعله ثوريا، كما ان حمله رسالة عميقة كاقامة الوحدة العربية وبناء الاشتراكية تجعله حزبا تاريخيا لانه يستمر في العمل والنضال مراحل تاريخية طويلة، اما الحزب الليبرالي، او حزب الفرد الواحد او حزب الكتلة الصغيرة التي التقت حول هدف مباش واني وفي ظل غياب وحدة الفكر والموقف الستراتيجي، فانه حز ب اصلاحي وغير ثوري لا يستهدف تغيير المجتمع والدولة تغييرا جذريا بل يعمل على دا تحقيق هدف ضمن الوضع القائم، وهنا تبرز طبيعته العابرة والمؤقتة ويدمغ بالسمة اللاتاريخية اي العابرة والتي تجعله موجودا في مرحلة معينة فقط. الحزب الثوري هو بطبيعته حزب تاريخي لانه يغير مجرى الاحداث ويحفر طريقا جديدا يدخله التاريخ بصفته صانعا لاحداث عظمى، في حين ان الحزب غير الثوري لا يدخل التاريخ بصفته صانعا له لانه لم يغير مسار الاحداث الكبرى وانما قد يساهم في احداث تغييرات طفيفة وغير عميقة وعابرة وفي اطار الواقع الموجود.
ما الذي يفرصه هذا التمييز بين الحزب الثوري التاريخي والحزب الليبرالي او حزب الفرد الواحد؟ من البديهي ان الحزب الثوري وهو يعمل على تغيير وضع كامل جذريا سيواجه مقاومة تزداد حدتها وعنفها كلما تعرضت مصالح من يحكم للخطر، وهكذا ينشب صراع عنيف وعدائي بين انصار الوضع القائم في الداخل، ومن يدعمهم في الخارج، وبين الحزب الثوري، الامر الذي يفرض فرضا انماطا من التنظيم الحديدي السري معاييره في الانتماء للحزب صارمة وواضحة ودقيقة، تتضمن بصورة حتمية اعداد من يرشح للانتماء فكريا ونفسيا وثقافيا وامنيا وتنظيميا قبل قبوله عضوا عاملا لكي يحافظ الحزب على جهازه الحزبي واسراره مثلما يحافظ على هويته الفكرية الخاصة.
وفي حالات اخرى يضطر الحزب الثوري، كما في حالة البعث في العراق قبل استلام السلطة، الى وضع مراحل اعداد واختبار طويلة لعمل الحزبي قبل ان ينال العضوية، فيبدأ مؤيدا ثم نصيرا ثم نصيرا متقدما ثم مرشحا، ثم عضوا ثم عضوا عاملا، ولا يصعد للمرحلة الاعلى الا اذا نجح في التجربة، كل ذلك لاكمال اعداد الحزبي بصورة مناسبة لدوره التاريخي وجعله خلية جبارة نوعيتها ممتازة ويمكن ان يعتمد عليها في الازمات والمحن الكبرى. من هنا فان الحزب الثوري – التاريخي يتميز عن الحزب التقليدي – اللاتاريخي بانه يخضع لنظام داخلي صارم وواضح جدا وملزم ويشكل خرقه وعدم الالتزام به خروجا خطيرا على مجمل مسيرة الحزب ولا يعد فقط عملا غير نظامي.
ان الانضباط في الحزب الثوري، والذي يصل اثناء الازمات الى حد الانضباط العسكري او شبه العسكري، شرط لا غنى عنه ابدا لانه الضمانة الاساسية لجعل الحزب قادرا، في ان واحد، على العمل كرجل واحد طاقاته مجمعة وجاهزة للحسم بوضوح سياسي وفكري وامني، لذا فان عدم الانضباط يخلخل المنظمة الحزبية ويعرض تنفيذ خططها للفشل الكارثي، ويلحق اضرارا قد تكون فادحة يستغلها العدو الشرس لتوجيه ضربات قاسية وربما قاتلة للحزب. ان تجربة استخدام القوة ضد قسم من قيادة الحزب المنتخبة في العراق في عام 1963 لم يؤدي الى تعزيز سلطة الحزب بل ادى الى خلخة الحزب وانقسامه والسماح بحصول انقلاب ضده بقيادة عبدالسلام عارف، وان تجربة استخدام القوة داخل الحزب في سوريا في عا م 1966 ادى الى حصول اخطر واسوأ انشقاق وتشرذم في الحزب مازلنا نعاني من اثاره المدمرة والكارثية الى اليوم.
وفي حالة العراق وحالة سوريا فان من اعتقد بان خرق النظام الداخلي والتجاوز على الشرعية الحزبية سيحل المشكلة ويخدم الحزب كان مخطئا كليا، وابرز دليل على صحة ذلك هو وجود مركزين متناحرين منذ عام 1966، اي بعد اكثر من اربعة عقود من الزمن، احدهما في سوريا والاخر في العراق يعملان باسم الحزب وخاضا صراعات مميتة لكليهما واختار كل منهما خطا مناقضا لخط الاخر ايديولوجيا وستراتيجيا، واصبح كل منهما يعد الاخر العدو الرئيسي له وليس الاعداء التقليديين للحزب! وهذه الحالة المأساوية الحقت ضررا بالغا وخطيرا بسمعة الحزب ودوره. فهل هذا الدرس التاريخي المرير لا يكفي للتعلم من التجربة التي اكدت بحسم تام بان اي تمرد على الشرعية الحزبية والنظام الداخلي لن يؤدي الا الى اضعاف الحزب وربما تدميره والسماح للغرباء باختراقه؟
وهنا نصل الى احدى اهم قواعد العمل التي تميز البعث عن باقي الاحزاب وجعلته طليعة هذه الامة بلا منازع حقيقي، وهي ان من يجب ان يكون بعثيا يجب ان يكون متميزا بصفات عديدة نوعية، طبقا لمفهوم الانقلابية الذي يعد اهم ركيزة تربوية في الحزب، ومن هذه الصفات النوعية للبعثي توازنه وتربيته الاجتماعية، القائمة على احترام القيم الاخلاقية، وشجاعته ومروءته وصدقه وخوفه من الله وحسن سيرته العامة وصبره وتغلبه على النزعات الانانية والفردية وثقافته…الخ.
ان هذه الصفات تنمى في البعثي اثناء اعداده الحزبي بعد ان كانت موجودة كبذور، كل ذلك يجعل المعيار الاساسي للانتماء للبعث معيارا نوعيا وليس معيارا كميا، اي بتعبير اخر ان ما يتحكم في عملية الكسب للبعث هو نوعية الانسان وليس كمية من ينتمون، فكمية قليلة من ذوي النوعية الممتازة افضل دون ادنى شك من كمية كبيرة افرادها يفتقرون الى مواصفات المناضل التي ذكرنا بعضها. لذلك كنا في فترة النضال السري نشدد على النوعية عند الكسب ونرفض ضم عناصر مشكوك في مواصفاتها الاخلاقية والتربوية والاجتماعية رغم الحاحها على الانتماء للحزب، هذه القاعدة جعلت مناضلوا البعث قادرين على تحمل التضحيات الغالية من اجل الامة والحزب وبنت تنظيما منضبطا وفعالا جدا وقادرا على التكيف الفوري مع تغيرات الاحداث المفاجئة من اجل السيطرة على الوضع وعدم السماح للمفاجئات باربا كنا.
وفي اطار معيار النوعية كان الاعداد العقائدي اهم بكثير من الانضباط التنظيمي، لان الانضباط وا لشجاعة وغيرها من الصفات البعثية المطلوبة هي نتاج للوعي العقائدي والفكري البعثي، فلا بعثي منضبط ويحترم النظام الداخلي والشرعية الحزبية الا اذا فهم واستوعب عقيدة الحزب، ولا بعثي مستعد للاستشهاد الا اذا امتلك الوعي العقائدي واستوعب عقيدة البعث وعرف مضامينها ومعانيها وما يميزها عن غيرها من العقائد السياسية. وهذا الامر يعني، اولا واخيرا، وجود تربية حزبية عقائدية مشتركة لكل البعثيين، ولذلك لا يوجد حزبي غير مثقف بعقيدة الحزب ويكتسب الصفة البعثية. ان المصدر الاساسي لقوة البعثي هو فهمه لعقيدته البعثية، فهي الدرع القوي للبعثي الذي عندما ينا قش الاخرين يستطيع ان يوضح افكار واهداف الحزب ويجادل الخصوم بقدرة واضحة. بالانضباط التنظيمي والو عي العقائدي يصنع البعثي الحقيقي، وبكلاهما نضمن وجود بعثيين منسجمين تحركهم منطلقات واحدة وفكر واحد وتقاليد تنظيمية واحدة ويبدون للاخرين كجسد واحد متراص بقوة. وهذه بالضبط هي اهم شروط انتصار وتقدم البعث.
ان الجيل القديم من البعثيين يعرف هذه الحقيقة وهي التي اهلّت الحزب للصعود وتجاوز احزاب اقدم منه كثيرا، ووفرت له القدرة على الصمود وتقديم كل التضحيات المطلوبة، وحرمت اطرافا عديدة من فرص اضعافه او شقه او اختراقه امنيا وفكريا وسياسيا. ولكن مع الاسف كان الوصول للسلطة في عام 1968 بداية للتخفيف من الالتزام بقاعدة النوعية في الكسب وحلول قاعدة الكمية محلها نتيجة تضخم التحديات ووجود حاجة لعدد كبير من الانصار المدافعين عن الثورة، وهذا التقدير كان خاطئا والحق اضرارا كبيرة بالحزب من حيث متانة وصلابة ومبداية الحزبي. ان ما سمي ب(التبعيث)، اي تنظيم الجميع في الحزب، كان كارثة على الحزب لانها اغرقته بالانتهازيين وحرمت المخلصين من التربية العقائدية السليمة ومنعت اكتساب التقاليد التنظيمية، اذ ليس معقولا ان يكون في الحزب حوالي خمسة ملايين حزبي ويكون كل هؤلاء بعثيين، لان الحزب الثوري هو حزب طليعي يقود بفضل كفاءته ويكون قدوة مقبولة تجذب الجماهير بفضل كفاءة مناضليه، وحينما يصبح الحزب ملاييني العدد تضيع طليعته وتذوب في بحر الكتل غير الواعية وغير المؤهلة عقائديا وتنطيميا.
لا بعث بلا المرجعيات الثلاثة
اذن، وفي ضوء ما تقدم، علينا ان نؤكد بان البعث بلا متانة وقوة ونوعية تنظيمه، خصوصا التربية العقائدية التي تعد اهم اسلحته في النضال، يفقد وحدته وهي ا هم عناصر ديمومته نتيجة وجود افكار متناقضة وممارسات مختلفة جدا لا تنسجم مع تقاليده التنظيمية، هذه حقيقة وبديهية معروفة تطرقنا اليها للتذكير فقط بان البعثي ليس كل من انتمى للحزب بل انه الطليعي الذي يملك مواصفات ثورية وعقائدية لا سبيل لتجاهلها عند البحث في وحدة الحزب. والسؤال الذي تفرضه الملاحظات السابقة هو : هل الدعوة للتوحيد تنسجم مع قواعد العمل الحزبي الثوري؟ ان وحدة الحزب ليست فكرة مطلقة وبلا تحديد بل تحكمها شروط لان وحدة الحزب ليست مطلبا عاطفيا بل هي مطلب عقلاني، قبل كل شيء، ومن غير الممكن تناول وحدة البعث من دون تذكر ان اي وحدة تحكمها اسس حتمية لا يمكن تجاوزها او القفز من فوقها على الاطلاق، اذا كان المطلوب حقا هو مصلحة الحزب والامة وليس امرار مخططات معادية او تغليف نزعات فردية انانية. لذلك لابد من التذكير باهم القواعد التي تحكم وحدة الحزب وبدونها تتحول الوحدة الى لغم خطير جدا، وهي مرجعياته الثلاثة : المرجعية التنظيمية والمرجعية العقائدية والمرجعية ا لسترا يجية.
المرجعية التنظيمية : هناك سؤال مهم وهو : هل يمكن الاستخفاف بالنظام الداخلي لاي سبب كان ويبقى الحزب حزبا ثوريا ومتماسكا ويخضع لانضباط لابد منه في اي تنظيم؟ وهل يمكن تجاوز الشرعية الحزبية ويبقى الحزب حزبا واحدا متميزا عن باقي الاحزاب وله مركز واحد ويتبع نهجا واحدا؟
ان النظام الداخلي وجد لضبط عمل الحزب ومنع الانحرافات تماما كالقانون في الدولة، فالدولة بلا تنظيم قانوني مركزي لا تبقى دولة بل تصبح عبارة عن امارات متناحرة كالصومال الان مثلا، وهذا هو حال الحزب الثوري فهو لا يستطيع العمل كحزب قوي ومعبر عن هويته وخياراته الستراتيجية الا اذا خضع لنظام داخلي قوي وواضح يحكم تصرفات ومواقف الاعضاء في مختلف المستويات من القاعدة الى القمة. فمن يقود الحزب وما هي مسئولياته وكيفية اختيار القادة ومسئولي التنظيمات وتحديد صلاحياتهم ووضع قواعد محاسبة من يخطأ او يتجاوز، وضبط عملية النقد والنقد الذاتي…الخ هي من الاسس الحتمية لاي حزب حقيقي خصوصا حينما يكون ثوريا واعد نفسه لاحداث تغييرات جذرية في الدولة والمجتمع، عندها يكون النظام الداخلي قانونا حتميا يضمن توازن الحزب وانسيابية عمله وقدرته على تحقيق ادارة فعالة لتنظيماته تستبعد المزاجية والنزعة الفردية وتحفظ حقوق الحزبيين والحزب وتفصل في اي خلاف.
ان الانضباط الحزبي طبقا للنظام الداخلي في الحزب الثوري يشبه الانضباط العسكري في الجيوش، فبدون الضبط العسكري لا يوجد جيش حقيقي ويصبح عبارة عن ثكنات جامدة في مكانها ولا تتحرك عند اصدار الاوامر لحسم امر ما فتضيع قدرة الجيش. وهكذا هو الحزب الثوري فبما انه يريد احداث تغيير جدري وتنفيذ اهداف تاريخية كبرى ويخوض صراعات عنيفة ومصيرية، فانه يحتاج الى الانضباط الحزبي الحديدي. وعلى النقيض من ذلك فان الحزب التقليدي او الليبرالي المحكوم بضوابط اللعبة السياسية واهمها حل مشاكله عبر البرلمان والقانون لا يحتاج للانضباط الحزبي الحديدي وانما يكفي تحقيق درجة دنيا من الانسجام فقط، وهنا تبرز امكانية تعدد السياسات والاصوات في الحزب وحصول تناقضات بين اعضاءه.
لذلك وفي ضوء ما تقدم فان خرق النظام الداخلي هو المقدمة الطبيعية لاحلال الفوضى محل النظام والسماح بتفيتت الحزب وتحويله الى مراكز متصارعة على مراكز القوة فيه او حول النهج السياسي والعقائدي له، وتلك هي المقدمات الضرورية لاضعاف الحزب وافقاده وحدته وهي مصدر قوته الاساسي، ودفعه لخوض صراعات داخلية مدمرة ومفتوحة لها بداية وليس لها نهاية مسرة، وهي حتما لن تكون الا الغاء دور الحزب، او في افضل الاحوال تحويله الى ديكور او قوة هامشية تشلها الخلافات ومراكز القوى. ان تجارب الحزب في نصف القرن الماضي تؤكد هذه الحقيقة وتثبت ان الحزب حالما يفقد الانضباط الحزبي نتيجة خرق النظام الداخلي يواجه حالات التشرذم والتمزق والتراجع وفقدان الدور لفعال ويشجع القوى المعادية على ضربه. لذلك فان الانضباط الحزبي هو الضمانة الاساسية لحماية الحزب من الاختراق ومنع تفكيكه وشرذمته وابقاء المركز المنتخب والشرعي هو القوة الفعالة التي تحمي الحزب ووحدته التنظيمية.
وحتى حينما يكون هناك خلل في مفاصل معينة من الحزب او خطأ في موقف له فان معالجة الامر لا تتم الا في ظل الانضباط الحزبي والخضوع التام لقواعد النظام الداخلي ومنها التحقيق وتثبيت الخلل، او بحث الموقف الخاطئ داخل الحزب وممارسة النقد لاي ظاهرة من اجل التوصل الى موقف حزبي مركزي يلتزم به الجميع. اما التمرد على النظام الداخلي بحجة وجود خلل ما او حصول تجاوز على النظام فان معالجته تتم ليس بزيادة الخلل – على طريقة (جاء يكحلها عماها) – او تكرار الخطأ بل بالرجوع الى النظام الداخلي لمعالجة كل الاخطاء ومظاهر الخلل. باختصار الخطأ لا يعالج بخطأ اخر، هذه واحدة من اعظم الحكم والعبر التي تعلمتها البشرية عبر الاف السنين.
هذا هو الموقف الحزبي الصحيح والتقليدي من النظام الداخلي والذي حمى الحزب ووحدته ومنع أستمرار تشرذمه، خصوصا حينما تفجرت صراعات خطيرة في الستينيات كان أخطر مظاهرها عدم التقيد بالنظام الداخلي، فلولا التمسك بالنظام الداخلي والشرعية الحزبية لما نجح الحزب في تلافي عملية التدمير الواضح للحزب عبر تجاوز النظام الداخلي والاعتداء على الشرعية الحزبية، ولما اعاد بناء وحدته الداخلية وصفى تدريجيا مظاهر الانشقاقات حتى عاد الحزب قويا و متماسكا.
اذن التمرد على النظام الداخلي لاي سبب كان هو المقدمة الطبيعية لشرذمة الحزب وانهاء دوره، في حين ان التمسك بالنظام الداخلي، ومهما كانت التحديات كبيرة، هو قارب الانقاذ الوحيد للحزب والامة من محاولات الشرذمة والقضاء على القوى الطليعية بتحويلها الى انموذج منفّر وكريه ومرفوض جماهيريا لانها لم تعد طليعية بعد ان صارت مثالا للطفولية والافتقار الى العقل والحكمة والنزوع للقوة في حل المشاكل الداخلية مع ان بالامكان حلها داخليا ووفقا للنظام الداخلي.
وعند تناول الشرعية الحزبية فيجب التأكيد على انها، في ان واحد، رمز الحزب الاعظم والمقدس ومصدر قوته وتماسكه، اذ كيف يمكن تحديد من يقود الحزب ومن يحتل هذا الموقع القيادي ومن يصدر الاوامر والتعليمات وغير ذلك، وهي اهم شروط وجود الحزب في اي ساحة، بدون وجود شرعية حزبية تعد المرجعية الوحيدة في قضايا الحزب؟ مرة اخرى وكما في الدولة، اي دولة، وفي المجتمع، اي مجتمع، لا يمكن ضمان وجود النظام والسلم الاجتماعي بدون وجود الشرعية والتي تحدد من يحكم ومن يعالج مشاكل الدولة والمجتمع. وعلينا ان نتصور غياب الشرعية في الدولة وفي المجتمع لنرى المشاكل التي تطفو على السطح محولة الدولة الى محض عصابات مسلحة ومراكز قوى لامراء حرب، كما في الصومال مثلا. لقد حلت شرعية البندقية محل شرعية الدولة والدستور، وتلك هي المقدمة الحتمية (لخراب البصرة) في كل زمان ومكان.
وفي هذا الاطار يتضح بلا لبس او غموض بان الشرعية الحزبية وجدت لحماية وحدة الحزب وابقاءه فعالا في عالم خطر، ومنع تحريف هويته الفكرية والنضال بلا هوادة ضد محاولات تصفية مرجعيته الاصلية، وسد كل الطرق امام التسلل اليه والسطو على هويته او اسمه واستخدامهما لتنفيذ سياسات تشيطن الحزب وتقضي عليه في الوسط الجماهيري. ومن الامور البديهية التاكيد على انه لا حزب ثوري او غير ثوري بلا شرعية حزبية تتمثل فيمن يقوده لانه منتخب كما في حالة حزبنا، او لانه وصل القيادة عبر نضال مسلح او سياسي فاكتسب الشرعية الثورية كما في حالة كوبا وكاسترو، ولذلك لابد من الانتباه دائما الى ان اول خطوة في نسف الحزب الثوري او تدميره هي التشكيك بشرعيته وشرعية قياداته، وهذا ما لاحظناه في العراق المحتل حيث قام الاحتلال في ايامه الاولى باصدار قانون بحل الحزب واجتثاثه وكان التشكيك بشرعية الحزب هو المقدمة الضرورية لاجتثاثه.
وفي حالات حرب تحرير وطنية كالتي يخوضها شعب العراق فان كل وطني عراقي يملك الحد الادنى من الوعي لوطني ملزم بالتضامن مع البعث وقيادته لانه يخوض صراعا رئيسيا ومصيريا مع احتلال من اجل تحرير العراق وطرد الاحتلال، الامر الذي يجعل تقيد البعثي بالشرعية الحزبية اكثر اهمية من دعم المواطن العادي للبعث، وهذا التقيد هو الشرط المسبق للمحافظة على موقفه الوطني اولا ولاثبات صدق انتماءه للبعث ثانيا. ولم يحصل ابدا قيام عضو في حزب وطني او ثوري بالتشكيك بشرعية قيادة الحزب والثورة اثناء حرب التحرير او اثناء الازمات الكبرى حتى لو كانت هناك ملاحظات حول الشرعية، لان ذلك مؤشر لتدني الوعي الوطني وغياب الشعور بالمسئولية الوطنية اذا لم يكن للاعداء صلة بالامر. اذن كيف يوصف موقف من يشكك بالشرعية الحزبية مع انها متوفرة في كل اركانها الاساسية، اثناء حرب التحرير؟ هل الغباء والسذاجة هما الوصفين الوحيدين؟ ام ان الامر يتعدى ذلك ويدخل في اطار التمهيد لشرذمة وتقسيم الحزب على طريق اجتثاثه؟
ان البعث يعرف والعالم كله يعرف ان الرفيق عزة ابراهيم هو امين سر القطر الشرعي الوحيد لانه انتخب نائبا لامين سر القطر قبل الغزو، وتولى وفقا للنظام الداخلي للحزب امانة سر القطر وكالة بعد اسر الرفيق القائد الشهيد صدام حسين امين سر القطر، ثم اصبح امين سر القطر بعد استشهاد القائد تطبيقا حرفيا للنظام الداخلي، وتوج ذلك كله بانتخابه امينا عاما للحزب وبقرار القيادة القومية للحزب، وهي اعلى قيادة منتخبة وفق الاصول الحزبية، منح الرفيق عزة ابراهيم كافة صلاحياتها من اجل تسهيل مهمة قيادة الحزب وهو يقود الثورة المسلحة ويواجه اخطر مرحلة في تاريخ العراق والامة، وتمكينه من مواصلة المقاومة المسلحة للاحتلال. هذه الحقيقة تصدم من يسمع اصواتا تشكك بشرعية قيادة الحزب الان وهي تقاتل الاحتلال، بل ويواجه اراء اقل ما توصف به هو انها ساذجة جدا وتقوم على جهل تام للنظام الداخلي ولتقاليد الحزب وعقيدته، مثل التي عرضناها فيما سبق.
مقابل الشرعية الحزبية الواضحة فان من يتحدثون عن توحيد الحزب ويريدون املاء اراء غريبة جدا لا يملكون اي صفة شرعية فهم اما افراد فصلوا منذ عقود، او انهم كانوا في الحزب قبل الغزو ولكنهم كانوا في مستويات متدنية حزبيا، وبعضهم عوقب قبل الغزو لاسباب انضباطية صرفة، او انهم فشلوا في الانتخابات الحزبية نتيجة لافتقارهم للامكانيات والتأهيل المطلوب في موقع الكادر المتقدم، ولا يوجد من بينهم واحد منتخب ديمقراطيا، والاهم ان اكثر هؤلاء الانفار تركوا الحزب بعد الغزو ورفضوا العمل فيه. و في كل هذه الحالات فانهم يفتقرون للصفة الحزبية ولا يتمتعون باي شرعية، ولهذا نراهم الان يشككون با لشرعية الحزبية ويقللون من شأن النظام الداخلي لانهم يريدون الوصول الى داخل الحزب بطرق التفافية وغير شرعية.
ان الدرس التاريخي الذي بلورته تجارب الامم وحركات التحرر الوطني يؤكد بان عدم الالتزام بالنظام الداخلي والشرعية الحزبية هما الوسيلتان الرئيسيتان لانهاء الحزب من داخله، وظاهرة الاستخفاف بالنظام الداخلي والشرعية الحزبية هي نتاج تسلل جيل من الحزبيين بعد ثورة البعث في عام 1968 لا يعرف بصورة جيدة عقيدة الحزب ولا نظامه الداخلي، لانه جيل نشأ في ظل سلطة تحكم باسم الحزب، وهي سلطة اختلطت فيها الصفة البعثية مع الصفة الحزبية – ليس كل حزبي انتمى للبعث بعثيا – لتولد وعيا سطحيا مقترنا بظاهرة الانتهازية التي تقتل اي عقيدة او اصالة عقائدية. ان الحزب اذا كان ثوريا وعقائديا لا يمكنه ان يحقق رسالته التاريخية من دون انضباط حزبي عال خاضع تماما لعقيدة ثورية ولقيادة تقرر مسارات الحزب وخياراته الستراتيجية والسياسية.
يتبع
مايس – ما يو 2010