الرسالة الخامسة : لغم (عفوية) انطلاق المقاومة العراقية (1-3)
الى الماء يسعى من يغص بلقمة فإلى اين يسعى من يغص بالماء؟
مثل
تضليل متعمد ام وعي هابط؟
من الامور المثيرة للاستغراب، ولكنها من اكثرها توقعا، ان يظهر من يحاول ان يزور احداث مازال شهودها واحداثها ووثائقها حية وموجودة ومازالت ذاكرة الناس العاديين تستعيد كثيرا صورها واثارها، ومازال الكثير من ابطالها احياء بيننا ومازلنا نعيش في بيئتها ولم تمض عليها عقود او قرون كي يصبح ممكنا تغيير الوقائع المادية بعد غياب الشهود والوقائع او ضعف الذاكرة! ومن بين اهم وابرز شهادات الزور والتزوير، او السذاجة والوعي الهابط، اطروحة ان المقاومة العراقية كانت عفوية في انطلاقتها ولم يكن هناك اي اعداد مسبق لها! وهذه الشهادة قالتها افواه كثيرة ومتناقضة التكوين والموقف والهدف، بعضها وطنية والاخرى من اعداء المقاومة،، لكنها تقف جميعها فوق تلة عامل مشترك وهو انكار وجود اعداد مسبق للمقاومة العراقية! اننا ونحن نتصدى لهذه الاطروحة الان في ذكرى الغزو الثامنة، نريد التاكيد على ان هدفنا ليس تسليط الضوء على خطأ شخص او كتلة بل على مرض مزمن اصاب افراد وكتل وحرمها من نعمة البصر والبصيرة حينما يتعلق الامر بشهادة تقر للغير حقهم وحقوقهم، وهو مرض مضر جدا لانه يزرع الشكوك وينشر الفتن، اذا كان من اصيب به وطنيا، في وقت نحن احوج ما نكون فيه للتوحد والتضامن من اجل طرد الاحتلال وليس للانغماس في جدل جنوني يفتقر من يثيره الى القدر المطلوب من الحكمة والتعقل وبعد النظر في تقرير كيف ومتى يثير الامور الحساسة.
ان الاسئلة والتساؤلات الواجب التعامل معها للرد على هذه الفرية هو التالي : هل يمكن ان تنطلق مقاومة ضد اشرس واكثر النظم الاستعمارية تطورا وقوة وخبرة وامكانات، وهو النظام الاستعماري الامريكي، وفي بيئة خلو ساحة العالم من اي منافس او رادع للاستعمار الامريكي، كما كان الحال في فترة الحرب الباردة، ومع ذلك نجحت المقاومة العراقية في تمريغ انفه في اوحال الفشل والهزيمة واسقطت مشروعه الاكبر لحكم كل العالم بصورة منفردة، وعدت لذلك المقاومة الاسرع في انطلاقتها والاعظم والاكثر تعقيدا والاوسع انتشارا في كل تاريخ المقاومات في العالم ودون اي استثناء، هل يمكن ان تكون هكذا مقاومة بدون اعداد مسبق؟
وهذا السؤال لابد وان يقترن بسؤال جوهري اخر يفرض نفسه من اجل التذكير بطبيعة الصراع ومن يخوضه وبما يفرضه من الزامات والتزامات وطنية واخلاقية وهو : هل المقاومة المسلحة بعد الغزو هي بداية الصراع ام انها تتويج له؟ فأذا كان الجواب انها بداية للصراع فان من يقول بذلك يسقط نفسه في امتحان الصف الخامس الابتدائي لانه يجهل تطور الصراع واسبابه الحقيقية، اما اذا تم الاعتراف بان المقاومة هي تتويج حتمي لصراع طويل بدأ منذ تأميم النفط وكان بالغ التعقيد، خصوصا في المجال الاستخباري، اي تعمد العدو المشترك – امريكا والكيان الصهيوني وايران – التضليل والتمويه وزرع الشكوك وعدم السماح للوطنيين بتكوين صورة واضحة للصراع من اجل ابقاءهم متفرقين، فان هذه الحقيقة تفرض احكاما وطنية واخلاقية صارمة تجرد من يقول بعفوية المقاومة من احقادة ومواقفه السابقة ولا تترك له خيار سوى التلاحم والتعاون والتحالف مع من يخوض الصراع الستراتيجي الاعظم منذ عقود مع اقوى استعمار في التاريخ وهو الاستعمار الامريكي , مدعوما باشرس قوتين اقليميتين واكثرهما حقدا على العرب والهوية العربية وهما الكيان الصهيوني والنزعة الشوفينية الفارسية التي تقبض على السلطة في ايران، فهل حصل هذا؟ هل تناسى من له خلافات ايديولوجية وسياسية مع البعث تلك الخلافات وتحالف مع البعث قبل الغزو وبعده ضد من يفترض انه عدو مشترك لكل الوطنيين؟
دعونا نتناول هذه المسألة الحساسة من خلال تثبيت ملاحظات جوهرية بصيغة اسئلة محددة، مع ضرورة تجنب الانجرار الى مهاترات يريد البعض جرنا اليها :
1 – بم تميزت المقاومة العراقية؟ هناك اجماع عربي وعالمي على حقيقة فرضت نفسها وهي الانطلاق الفوري للمقاومة العراقية المسلحة بمشاركة الاف المقاتلين العراقيين، ومعهم قاتل حوالي 800 مجاهد عربي تطوعوا قبل الغزو ودربوا من قبل المختصين العراقيين. هذه الحقيقة تفرض السؤال التالي : هل يمكن عمليا انطلاق الاف المقاتلين في مختلف انحاء العراق لمقاتلة الغزاة بصورة عفوية؟ ان القيمة الخاصة لهذه الحقيقة لا تظهر الا اذا تذكرنا حقيقة اخرى معروفة عالميا وهي ان كل المقاومات الحديثة المعروفة، ودون اي استثناء، قد ابتدأت بانفار قليلي العدد ثم توسعت مع زمن وصل حد عقود من الزمن قبل تحول المقاومة الى ثورة مسلحة، وهذا ينطبق على الثورة الجزائرية والثورة الفيتنامية والثورة الفلسطينية وغيرها.
لذا لابد من التساؤل المنطقي التالي: لم وكيف حصل ان انطلقت المقاومة العراقية بصورة فورية وبمشاركة الاف المقاتلين لمواجهة قوات الاحتلال في بغداد وغيرها؟ هل نزل هؤلاء المقاتلين من القمر بعد اعدادهم من قبل خبراء قمريين؟ ان التعامل مع هذه التساؤلات والاجابة عليها بعيدا عن الانانية والاحقاد والمواقف السياسية والايديولوجية المسبقة تعد قضية وطنية واخلاقية وحقيقة تفرضها المعايير الموضوعية التي لابد من احترامها والالتزام بها للوصول الى الموقف الصحيح وطنيا واخلاقيا من جهة، ومن متطلبات عمل الضمير الحي من جهة ثانية. وحقيقة ان المقاومة كانت شرسة عند دخول بغداد تؤكدها معارك يعرفها كل بغدادي مثل معركة الاعظمية، التي كانت تدور بقيادة الشهيد القائد صدام حسين، في نفس وقت اسقاط التمثال، ومعارك نفق الشرطة والكرخ في الصالحية وغيرها، وهي معارك تم تجاهلها عمدا من قبل اعلام الاحتلال الذي ركز على مناطق ساد فيها هدوء نسبي لاسباب معروفة ليثبت عدم وجود مقاومة. وفي معارك بغداد تلك خصوصا يوم 9/4 فقدنا شهداء كثر.
2 – من كان الهدف الرسمي والفعلي لقوات الاحتلال؟ ان طرح هذا السؤال عمل بالغ الاهمية لانها يذكرنا بقضية وطنية واخرى اخلاقية، فوطنيا لا يجوز لوطني مهما كانت خلافاته مع وطني اخر ان ينكل به مع ان ذلك الوطني يتعرض لتنكيل الاحتلال ويقاتل الاحتلال، واخلاقيا، وفي حالة العراق، لا يجوز ان نشارك الاحتلال احد اهم اهدافه وهو اجتثاث البعث عبر انكار فضائله واهمها مقاومته للاحتلال منذ عام 1991.
من المعروف ان البعث، وليس غيره من القوى السياسية الوطنية، بقياداته وكوادره وانصاره كان الهدف الفعلي والرسمي لكل القوى التي شاركت في احتلال العراق، ولذلك كانت ماكنة الاحتلال العسكرية والامنية والسياسية والدعائية تحصد ارواح البعثيين بالمئات أسبوعيا، وتحاول شيطنتهم بنشر الاكاذيب حولهم، وملأت سجون الاحتلال بمئات الالاف من البعثيين منذ اليوم الاول للاحتلال، وهذه الحقيقة تقابلها حقيقة اخرى معروفة ايضا وهي ان الشخصيات والكتل الاخرى غير البعثية المناهضة للاحتلال لم تتعرض لاي هجمات او قتل او اعتقالات منظمة، في السنوات الثلاثة االاولى من الاحتلال، لذلك كانت تستطيع التحرك بسهولة، بل ان الاحتلال كان يريد بروز وطنيين ينتقدونه لكنهم ليسوا بعثيين من اجل اثبات انه جاء من اجل نشر الديمقراطية وكان الكثير من مناهضي الاحتلال يتمتعون بحرية نقد الاحتلال دون عقاب، وفي هذا الاطار تم ابراز شخصيات وطنية في الفضائيات وغيرها وهي تهاجم الاحتلال، لكن اي بعثي لم يسمح له بالرد.
ما معنى هذا عمليا؟ هل يؤثر ذلك على مبادرة ودور البعثيين الجهادي في الرد على الغزاة؟ نعم كان نشوء كتل ونخب بعد الاحتلال مبادرة وطنية حقيقية، لكنها ايضا كانت خطوة مطلوبة من قبل الاحتلال، فانشاء كتل وتنظيمات بديلة عن البعث اريد به ملأ الفراغ الذي توقع الكثيرون حصوله نتيجة ضرب واجتثاث البعث، وهي خطوة كان احد اهدافها استقطاب الجماهير العراقية المناهضة للاحتلال من قبل الكتل والشخصيات الوطنية غير البعثية وحرمان البعث من جماهيره وعزله، من جهة، ومنع عقد تحالف بين هذه النخب والبعث لمواجهة الاحتلال سوية من جهة ثانية، وهو تحالف لو قام مبكرا لكان الاحتلال قد تعرض لهزائم اكبر واخطر، وعدم قيام تحالف مع البعثيين من قبل مناهضي الاحتلال يسمح بالتنكيل بهم دون اعتراض الشخصيات والكتل الوطنية، كما انه كان نتاج خطة امريكية لاستدراج وطنيين للاشتراك في العملية السياسية تحت ظل الاحتلال من جهة ثالثة، ولعل حضور بعض الوطنيين مؤتمر القاهرة للمصالحة في عام 2005 مثال على ذلك، وحضروا رغم اننا نصحنا بعضهم بعدم الحضور.
وبالفعل راينا اجتماعات كثيرة تعقدها عناصر ونخب وطنية بعد الاحتلال علنا ودون اي اعتراض من الاحتلال وتنقل وقائع الكثير منها عبر وسائل الاعلام التي سيطر عليها الاحتلال، وشجع الاحتلال عناصر كانت تعيش في الخارج وتعمل مع ماكان يسمي ب(المعارضة العراقية) على الانضمام لهذه الجهود لتشكيل (بديل وطني عن البعث) من اجل تسهيل احتواء هذه النخب الوطنية، او على الاقل زرع عناصر مرتبطة استخباريا بالاحتلال فيها وجعلها تعيش حالة قلق وغموض في مواقفها واتجاهاتها. لقد تجنبنا ذكر اسماء نخب او اشخاص حرصا على ابقاء باب الحوار مع كل الوطنيين مفتوحا من اجل الوحدة، ولكن اذا اعترض احد على هذه المعلومة فلدينا المعلومات الدقيقة والموثقة، بالاسماء والتاريخ والاماكن والصور والتسجيلات وغير ذلك، التي تثبت ما نقول.
وكان التكتيك الامريكي هذا له هدف بعيد، اتضح الان، وهو ادراك امريكا بان الكتل الصغيرة والنخب والشخصيات الوطنية غير قادرة على تكوين تيار وطني جماهيري فعال وقوي يواجه الاحتلال ويعرضه لتحديات حقيقية، بل على العكس فان نخبوية هذه الظاهرة تجعل بالامكان ممارسة الضغط عليها من اجل احتواءها لاحقا، او تصفيتها بسهولة اذا فشلت في احتواءها من خلال استغلال نقطة الضعف القاتلة فيها وهي انها لا تملك قواعد جماهيرية تهدد الاحتلال بها وتجعل عملها مؤثرا. وفي هذا الاطار راينا الاعلام الداعم للاحتلال يستضيف شخصيات وطنية ويسمح لها بمهاجمة الاحتلال في حين غيب البعث والبعثيون عن الاعلام عمدا، في خطوة محسوبة تدعم قرار الاحتلال باجتثاث البعث والايحاء بانتهاءه وزواله من الساحة العراقية! ولذلك كان اسمه يرفق دائما اما بكلمة (السابق) بنفس طريقة وصف الاتحاد السوفيتي السابق، او (المنحل) او (المحظور)، وكان طبيعيا، لهذا السبب، ان تلتف الجماهير حول الرموز المناهضة للاحتلال التي تظهر في الاعلام لانها وحدها من تهاجم الاحتلال في الاعلام، وكان طبيعيا ان يكون الهدف المركزي هو الايحاء ب(ضعف البعث وتحلله)!
انظروا الان في العام الثامن للغزو : هل نجحت التشكيلات التي اسست لتكون بديلا عن البعث منذ عام 2003؟ واين وصلت بعد ان نجح البعث في اسقاط مخطط اجتثاثه والغاء دوره وعاد منذ سنوات بصفته القوة المركزية في العراق؟ اننا حينما نطرح هذه التساؤلات لا نريد الغاء دور احد او التقليل من شأنه مهما كان حجمه، بل نريد تثبيت حقائق ربما تساعد على فهم افضل للوضع العراقي من قبل الجميع بما فيهم نحن البعثيون، تمهيدا لتوحيد الصف الوطني المبني على الوضوح والمصارحة والاحترام.
هنا يجب ان نذكّر بحقيقة معروفة وهي انفراد المقاومة البعثية بميزة لم تشاركها فيها فصائل غير بعثية اسست فيما بعد : البعثيون كانوا يقاتلون الاحتلال وبنفس الوقت يردون هجمات فرق الموت المتعددة، منها التابعة للاحتلال وعملاء ايران والمخابرات الامريكية الذين كانوا (يصطادون) البعثيين علنا وفي كل المدن في حين ان غير البعثيين كانوا قادرين على التحرك السهل والعمل السهل ومحاولة تأسيس مراكز وطنية بديلة دون وجود من يحاول قتلهم او سجنهم او الاعتداء عليهم، بشكل عام. والسؤال المهم هو : هل أثر ذلك على دورهم الجهادي؟ ان الجواب الان وبعد مرور سبعة اعوام على الغزو هو : كلا ونعم، كلا لان البعثيين كانوا المبادر الاول للقتال بعد دخول قوات الغزو للعراق، ابتداء من الجنوب في ام قصر وصولا الى بغداد. ونعم لان انشغال البعثيين بمواجهة الهجمات الشرسة وتدمير الكثير من منظماتهم الحزبية المدنية والجهادية واسر مئات الالاف منهم واستشهاد عشرات الالاف قد اثر طبعا على مستوى قتالهم بعد شهور من الاحتلال، مقارنة بما كان يمكن ان يصل اليه القتال لو لم يتعرضوا للهجمات البربرية الفاشية الدموية. ان هذه الحقيقة معروفة على نطاق واسع وهي تكفي وحدها لالزام كل وطني عراقي اخلاقيا ووطنيا باحترام دور البعثيين ودعمهم والوقوف الى جانبهم ومساعدتهم على مواجهة الحملات الاجرامية ضدهم وليس التشكيك بهم وتركهم وحدهم يواجهون اشرس حملة ابادة تعرض لها العراق، بل ان البعض من الوطنيين راح يلفق الاتهامات التي تحط من دور وشأن البعثيين في المقاومة ويردد اقوالا لئيمة تنبض بحقد واضح على البعث!
وعلينا لتقريب الصورة اكثر ان نطرج السؤال التالي : لو كان من ينفي تخطيط البعث وقيادته للمقاومة هو نفسه ضحية تلك الهجمات الشاملة، التي تعرض ومازال يتعرض لها البعث، هل كان سيستطيع اخراج راسه من باب داره؟ للعلم فقط ان احد من قالوا بعفوية المقاومة ترك العراق بعد اول تلويح له بالقتل ولم يعد اليه حتى الان، فاذا كان التلويح بالقتل قد اجبره على ترك العراق كيف اذن يسمح لنفسه بعدم تفهم وضع البعثيين، حتى لو افترضنا لاغراض الجدل فقط انهم لم يقاتلوا نتيجة انشغالهم برد حملات الابادة؟ اليست حماية الذات المقاتلة من الابادة والاسر هي احد اهم واجبات ثوار حرب العصابات والذي يضمن مواصلة الثورة حتى لو حصل تراجع في العمل القتالي بصورة مؤقتة في حرب طويلة ومعقدة كحرب العراق؟
لقد سمعت انا شخصيا مباشرة من احد انصار المقاومة، وهو يقول لي بتشف واضح جدا : (أستاذ صلاح لقد انتهى دور المقاومة البعثية بالقضاء على جيش محمد وهو الفصيل الوحيد الي اسستموه)! هذا المنطق القاصر، بل المريض، في التعامل مع قضايا التحرير والمقاومة مع الاسف هو منطق نساء الحارة اللواتي يبتهجن بطلاق احداهن نكاية بها مع ان الطلاق قد يصيبهن تاليا، وهو منطق لا عقلاني ومحزن جدا يحرك البعض وليس المنطق العقلاني القائم على الشعور بالمسئولية الوطنية والاخلاقية وقبول الاختلاف مع الاخر، والذي يفرض البحث في كيفية دعم كافة الفصائل خصوصا تلك التي تتعرض للضربات المؤذية وحدها او اكثر من غيرها، كجيش محمد الذي كان اول فصيل قاتل الاحتلال وشكله القائد الشهيد صدام حسين وتشكل من نخبة ممتازة من الضباط والمقاتلين المدنيين البعثيين. ان منطق هؤلاء متخلف وساذج ومتهور لانه يأخذ لحظة واحدة من المشهد وهي الشل المؤقت لجيش محمد ويبني عليها فكرة انتهاء المقاومة التي تقوم بها فصائل بعثية كثيرة غير جيش محمد، لانه منطق يريد اثبات فكرة عاطفية سلبية حبيبة على قلب هذا البعض وهي ان البعث قد انتهى! وهنا يجب ان اقول وانا اعرف ما اقول ان البعث يقاتل منذ بدء الغزو وحتى الان، ويقدم شهداء في اسبوع واحد، وفي منطقة واحدة فقط من العراق، اكثر من المجموع الكلي لكل هذه الكتل السياسية والدينية والفصائل غير البعثية في كل العراق، واستطيع تقديم الادلة المادية على صحة هذه المعلومة.
3 – ماذا جرى منذ بدء الغزو؟ هل حصلت مقاومة شعبية اضافة للمقاومة العسكرية النظامية؟ وهل حصلت عمليات استشهادية؟ من قام بها؟ لقد قدم العراق اسما لمدينة صغيرة كانت مجهولة حتى للكثير من العراقيين لكنها اشتهرت لانها كانت اول صدمة للاحتلال وهي المقاومة الباسلة لمدينة (ام قصر) في جنوب العراق والتي نجحت، رغم امكاناتها المحدودة، في مواصلة منع الغزاة من دخولها لثلاثة اسابيع بفضل التكامل الرائع بين عمل الجيش والمقاومة الشعبية المسلحة. هل يذكر من يريد تجريد البعثيين من فضائلهم هذه الحقيقة؟ وهل من قاوم في ام قصر بعيد عن الحزب ام انهم ابناء البعث؟
اما الاستشهاد والعمليات الاستشهادية فقد دشنها البعثيون وليس العناصر الاسلاموية، كما يدعي البعض، خصوصا النساء البعثيات ولدينا الشهيدة البعثية وداد الدليمي والشهيدة البعثية نوشة الشمري اللتان كانتا اول استشهاديتين تفجران نفسيهما في قوات الاحتلال وتلحقان بها خسائر فادحة. وفي قاطع الفرات الاوسط للعمليات العسكرية، وبتاريخ 29 مارس/آذار 2003 م اثناء القتال مع الغزاة قام المقاتل علي جعفر موسى حمادي النعماني بتفجير نفسه في اول عملية فدائية قتل بها (11) ضابط وجندي أمريكي، بعد ان قاد سيارته واقتحم بها نقطة تفتيش امريكية ما بين مدينتي (النجف وكربلاء) وفجر نفسه فيها. وكان الشهيد البطل قد تطوع فدائياً ليفتح أبواب المقاومة الشعبية الباسلة، وقد منحه الرئيس الشهيد صدام حسين بعد تنفيذ العملية البطولية وسام الرافدين من الدرجة الاولى.
كما ان لدينا قادة الحزب وكوادره الذين استشهدوا وهم يقاومون الاحتلال ببسالة، مثل الرفيق نايف شنداخ عضو قيادة قطر العراق للحزب والذي كان يقاتل الاحتلال في النجف ويقود المقاومة هناك، والذي استشهد وهو يقاوم تقدم قوات الاحتلال. وهذه الحقائق تقدم الدليل القاطع ليس فقط على وجود مقاومة شعبية باسلة بل أيضا على انها بدأت في جنوب العراق وبقيادة البعثيين، كما وضحنا بعكس الادعاءات غير الصحيحة عن تأييد ابناء الجنوب للاحتلال.
وعلينا هنا ان نذكّر بحقيقتين بارزتين :
الحقيقة الاولى : لقد اختارت القيادة العسكرية الامريكية التقدم نحو بغداد عبر الطريق الصحراوي خارج المدن لتجنب المقاومة الشرسة للقوات المسلحة العراقية والقوات الشعبية المتمركزة في المدن او عند حافاتها، وتلك حقيقة معروفة مكنت القوات المحتلة من تجنب التعرض للخسائر الكبيرة جدا، ولكنها حينما كانت تضطر لدخول مدينة كانت تواجه مقاومة باسلة وضارية ومكلفة من قبل ابناء الشعب خصوصا من فدائيي صدام ومنظمات الحزب المسلحة.
الحقيقة الثانية : في منتصف عملية التقدم نحو بغداد اصدر دونالد رامزفيلد وزير الحرب الامريكي امرا بايقاف القتال والتقدم ليومين وذلك لضراوة المقاومة التي تبديها القوات المسلحة والقوات الشعبية وقال بانه سيعيد النظر في الستراتيجية العسكرية الامريكية التي فشلت في شل المقاومة العراقية قبل مواصلة التقدم نحو بغداد، فهل يوحي هذا الامر المعروف بشيء او فكرة غير ان المقاومة العراقية بشقيها العسكري النظامي والشعبي كانت فاعلة جدا ومؤثرة جدا؟
4 – مم تكونت فصائل المقاومة فيما بعد؟ اذا تركنا الفصائل البعثية التي عملت تحت اسماء غير بعثية، تنفيذا لاوامر القيادة لتجنب كشف مقاتليها على اعتبار ان البعثيين عناصر معروفة حكمت العراق لمدة 35 عاما مما يجعل العمل باسماء بعثية عاملا مساعدا على اعتقالها او قتلها بمجرد اجراء جرد باسماء البعثيين في كل منطقة، نقول اذا تركنا الفصائل البعثية وتعاملنا مع الفصائل غير البعثية التي نشأت بعد اشهر او سنوات من غزو بغداد، ماذا نجد؟. يقينا ودون ادنى شك فان الفصائل غير البعثية تشكلت من كوادر البعث العسكرية والمدنية، خصوصا ضباط المخابرات الوطنية العراقية الذين انتشروا تنفيذا لاوامر الحزب في كل مكان وشكلوا، او ساعدوا على تشكيل فصائل مقاتلة بحكم خبرتهم العسكرية والاستخبارية والتدريب الذي تلقوه قبل الغزو على حرب العصابات او صنع الاسلحة والمتفجرات وتصليح الاسلحة.
اليوم نقولها بكل صراحة : لا يوجد فصيل واحد يقاتل الاحتلال الا وللبعثيين دور اساسي في تشكيله او دعمه وتمكينه من امتلاك الخبرة العسكرية او الاستخبارية، واليوم نقولها بكل صراحة أيضا بان الاوامر قد صدرت قبل الغزو وتم التاكيد عليها بعد الغزو بعدم اصدار بيانات عسكرية من قبل الفصائل او المقاتلين البعثيين والسماح بقيام فصائل غير بعثية بنسبها الى نفسها والسبب هو ان البعثيين كانوا لا يريدون جلب الانتباه اليهم وابقاء انفسهم بعيدا عن اعين مخابرات الاحتلا ل بقدر الامكان، من جهة ولتشجيع الفصائل الاخرى على الارتقاء بعملها الجهادي عن طريق نسب عمليات كبيرة ومهمة لها مما يجعلها مضطرة لقيام بعمليات اخرى بنفسها كي تحافظ على السمعة الي اكتسبتها من جهة اخرى.
والمثال على ذلك معركة الفلوجة الاولى، فقد تجنب البعث وانصاره الاعلان عن حقيقة اصبحت معروفة وهي ان من قاد تلك المعركة بصورة اساسية كان البعث بضباطه وكوادره المدنية واصدقائه غير البعثيين، ومع ذلك ترك الاعلام يتصور ان من قادها رجال دين عرفوا على نطاق واسع مع ان القتال كان يقوم به قادة وضباط بعثيون واصدقائهم، مثل جيش رجال الطريقة النقشبندية، وهو تنظيم صوفي عد بحق من اعظم فصائل الثورة العراقية المسلحة واكبرها، والذي بث يوم 9/4 من هذا العام فيلما وثائقيا طوله حوال الساعة عبر قناة الراي، يثبت بان معركة الفلوجة كانت بالاساس بقيادة العسكريين البعثيين وكوادر الحزب المخابراتية واصدقاء البعث ومن بايع قيادة البعث باسم الله والوطن، وقدم الفيلم الادلة على ذلك، وقال ممثل جيش رجال الطريقة النقشبندية بانه يعلن هذه الحقائق الان بعد سنوات من عدم اصدار اي بيان حول عمليات الجيش.
اما الكادر الاساس العسكري والمخابراتي والسياسي المجرب الذي قاد او ساعد على مواصلة عمل الفصائل غير البعثية فكان بعثيا او درب على يد البعثيين. ان الناس تطرح اسئلة منطقية لابد منها : من هم هؤلاء الذين تقدموا بالمئات وبالالاف فور حصول الاحتلال لمقاتلته؟ ما هي هويتهم السياسية؟ من اعدهم ودربهم ورباهم؟ وهل يمكن لمن لم يدرب مسبقا تدريبا عاليا ان يتقن فنون القتال الباسل والرائع الذي تميزت به المقاومة العراقية؟ هل يمكن صناعة اسلحة ومتفجرات وادوات حربية متطورة، كالتي تعطل منظومات الحرب الالكترونية لدى الامريكيين بدون اعداد علمي مسبق؟ ومن اعد هؤلاء علميا وتكنولوجيا وعسكريا؟ هل قامت جهة غير عراقية بذلك؟ ام ان جهات عراقية هي التي تولت التدريب والاعداد؟ اليسوا من كوادر البعث والقوات المسلحة وضباط المخابرات وعلماء العراق وهيئة التصنيع العسكري الذين اعدهم البعث وأهلهم لتلك الواجبات؟ وهل يمكن لغير البعثي او النصير للبعثيين ان يعد نفسه لمواجهة الغزو ويتدرب على السلاح مع ان ذلك مستحيل في ظروف العراق قبل الغزو؟ كيف حصل الاسلامويون الذين يقاتلون الان او قاتلوا فيما سبق على الخبرة العسكرية مع انهم كانوا غير قادرين قبل الغزو على الحصول عليها الا اذا التحقوا بحملات التدريب التي قام بها البعث؟
5 – من اين حصلت المقاومة على ملايين قطع السلاح التي استخدمتها في مقاتلة العدو فور احتلاله بغداد؟ نعم حصل البعض على السلاح من مخازن الجيش التي نهبت بعد دخول قوات الاحتلال لبغداد، ولكن هذه الكميات كانت محدودة مقارنة بما توفر للمقاومة من سلاح وعتاد وبكميات ضخمة قدمت قبل الغزو وبعده، مازالت موجودة حتى الان بعد مرور سبع سنوات، فمن اين جاء السلاح بكمياته الضخمة هذه؟
لقد قام البعث بتوزيع ملايين قطع السلاح قبل الغزو فاصبح في كل بيت عراقي اكثر من قطعة سلاح وبطبيعة الحال اصبحت العائلة العراقية بكافة افرادها غالبا تعرف كيفية استخدام السلاح، اما بعد الغزو فقد تولى الرئيس الشهيد صدام حسين بنفسه عملية توزيع السلاح والمال، بواسطة الرفاق الذين رافقوه، وهم احياء يرزقون ويقومون يتوثيق كل ما حصل للتاريخ والحقيقة، على اوسع نطاق ممكن وامر الضباط والكوادر الحزبية بتشجيع شيوخ العشائر ورجال الدين والعناصر الوطنية المستقلة على تشكيل مجموعات مقاتلة، او مساعدة كل من يريد القتال وتنظيم صفوفه ومنحه الخبرة العسكرية والاستخبارية. لقد كان الرئيس الشهيد يتجول في القرى والمدن ويجتمع مع الشيوخ ورجال الدين وكل من لديه الرغبة في مقاتلة الاحتلال، وامر مساعديه بايصال المال والسلاح لمن يريد القتال.
6 – كيف يمكن لمواطن مدني لم يخدم في الجيش ان يقاتل ويستخدم السلاح؟ اليس تلك الحقيقة دليل حاسم على انه درب قبل الغزو؟ ومن دربه؟ ولم دربه؟ ان من بين اعظم انجازات البعث نشر ثقافة المقاومة الشعبية وعسكرة العراق وشعب العراق وعدم الاكتفاء بوجود القوات المسلحة النظامية في الدفاع عن العراق وحماية شعبه من اي عدوان خارجي محتمل والسبب هو اختلال توازن القوى بين العراق ومن تصدى لنهجه القومي التقدمي التحرري، خصوصا في مجالي دعم القضية الفلسطينية والاصرار على ابقاء النفط ثروة عراقية تخدم شعب العراق وتساهم في حل مشاكل الفقر والامية وغيرها.
ان نشر ثقافة المقاومة وعسكرة الدولة والمجتمع في العراق كانا من اهم متطلبات التصدي الناجح والفعال للتحديات الخارجية المتعددة المصادر، وهما المقدمة الحتمية المطلوبة لخوض حرب العصابات في حالة حصول غزو او تعرض القوات المسلحة لضغوط ضخمة تجعلها في حاجة ماسة لقوة دعم كبيرة داخل العراق كي تتفرغ لمواجه تحديات الحدود. ان السؤال الواجب طرحه هو التالي : من قام بنشر ثقافة المقاومة وعسكر الدولة والمجتمع كرد على وجود تحديات ضخمة؟ ولماذا؟ هل كانت خطوة عفوية غير محسوبة؟ ام انها كانت خطوة وفرت للعراق فرصة اللجوء لخيار ستراتيجي فعال في حالة تحول خيار الحرب الكلاسيكية الى خيار خاسر؟ ان ما حصل بعد الغزو يقدم الجواب الحاسم والدقيق حيث ان نشر ثقافة المقاومة وعسكرة الدولة والمجتمع خلال حكم البعث كانتا من اهم عناصر انطلاق مقاومة فورية واسعة النطاق غير مسبوقة لا عدديا ولا نوعيا بعد حصول الغزو وتراجع دور القوات المسلحة في اطار حرب نظامية غير متكافئة.
ان عظمة وفرادة المقاومة العراقية تكمنان في انها نتاج اعداد دولة وطنية كانت قوة اقليمية عظمى، بكل ما كان لديها من خبرات بشرية وعسكرية وتكنولوجية وموارد مالية، لذلك لم تنطلق فورا باعداد ضخمة فقط بل انها أيضا كانت مبنية على قدرات واسعة جعلتها تتحمل ظاهرة عدم دعمها من الخارج، كما كان حال كل حركات التحرر التي تمتعت بدعم خارجي فعال كان احد اهم اسباب انتصارها. لقد وصفت الثورة العراقية المسلحة بانها الثورة اليتيمة الوحيدة في العصر الحديث على الاقل، ووصفت المقاومة العراقية بنفس الوصف، وهذا الوصف بحد ذاته يقدم لنا الدليل الحاسم على انه لولا ثقافة المقاومة وعسكرة الدولة والمجتمع لما استطاع العراق ان يواجه الغزو برد فوري وفعال وواسع النطاق شكل الصدمة القاتلة لاحلام الغزاة وعامل الاسقاط المباشر لتطلعاتهم اللاحقة باكمال خطة الغزو، بالانتقال من العراق الى غزو سوريا وغيرها في عملية تعاقب لخطوات الغزو كانت قد رسمت بتفاؤل كبير وقناعة امريكية تامة بان غزو المنطقة، انطلاقا من غزو ناجح للعراق، سيمكن امريكا من فرض هيمنتها التامة على مصادر الطاقة الاساسية وذلك هو الشرط المسبق الذي كان يجب توفره من اجل ان تستخدم امريكا النفط كسلاح جبار لا يرد ولا يصد لابتزاز العالم كله.
لم تؤدي عسكرة الدولة والمجتمع ونشر ثقافة المقاومة الى هزيمة امريكا فقط بل انها كانت مفتاح تحرير العالم برمته من غزاة هم الاكثر وحشية ولصوصية في كل التاريخ الانساني بعد ان غطست امريكا في رمال العراق الحارقة، فهل كان ذلك ثمرة عمل عفوي؟
يتبع…………
منتصف نيسان – ابريل 2010