احتفل العالم بعيد ميلاد السيد المسيح، رسول السلام والمحبة، لنودع بعد أيام قليلة هذا العام، ونستقبل عاما جديدا.
احتفالات هذا العام، تأتي في ظل كساد اقتصادي لم يشهد له العالم مثيلا في حدته وقسوته منذ الكساد الأعظم عام 1929م، ليجعل مشهد الأعياد ثقيلا وكئيبا، يضاعف من حدته توارد الأخبار بشكل يومي، عن إفلاس شركات كبرى، كان لها باع طويل في الهيمنة على الاقتصاد العالمي، وخروجها من السوق. وتأتي الأنباء عن عمليات نصب واحتيال واسعة، بلغت الخسائر في واحدة منها أكثر من خمسين مليار دولار، لتضيف إلى قتامة مشهد مثقل بما يفوق طاقته على الاحتمال. والنتيجة الكارثية لذلك هي حرمان الملايين من الحق في العمل والمأوى والغذاء والتعليم والعلاج والحياة الكريمة. والأزمة الاقتصادية العالمية، كما تشير معظم الأخبار والتقارير لا تزال في بداياتها.
ليس ذلك فحسب، فأدوات الحرب لا تزال تعمل بكثافة وقوة في بقاع كثيرة، حاصدة أرواح المدنيين والأبرياء، لتضيف إلى عجزنا الإنساني عجزاً، ثم عجزاً، يليه عجز… وبالإضافة إلى ذلك، يتم بوتائر متصاعدة تدمير منهجي لهذا الكوكب، نتج عنه حتى الآن احتباس حراري، وتصحير للغابات، وتلوث للبيئة والأنهار والبحار.
في عالمنا العربي ومحيطنا الإسلامي، كان لنا من هذه التداعيات نصيب الأسد. فقد بقيت فلسطين الجريحة دائما في مواجهة الأحداث. وأطبق الحصار الصهيوني، بقوة على أهلنا في قطاع غزة. وصمت العالم المريع على هذه الجريمة البشعة يضعنا جميعا، دون استثناء، في موضع الشبهة والاتهام. والعراق الحاضر أبدا، يجري تكبيله بمعاهدات واتفاقيات، تضمن استمرارية بقائه تحت الاحتلال والهيمنة. وعن عمد تتم عملية تفتيته وتقطيع أوصاله إلى دويلات وإمارات، تضمن عزله نهائيا عن محيطه العربي. وترتفع الأصوات الشعوبية والمشبوهة في الأيام الأخيرة، مطالبة بدولة شيعية، حول آبار النفط بالجنوب العراقي على غرار دولة كردستان، حول آبار النفط بالشمال.
وتستمر محاولات تعميم التخريب والتفتيت، في هذا الجزء من العالم، من موريتانيا إلى الخليج… مرورا بالجزائر والسودان والصومال واليمن ولبنان… ومرة أخرى، دون تورية أو استثناء. ولتضيع معها أحلامنا في التنمية والكرامة والعيش الرغيد.
ووسط العجز، والاعتراف المذل بعدم القدرة على الفعل، تعتبر ردة فعل الشاب العراقي الباسل، منتظر الزيدي، الغاضبة على تدمير البلاد والعباد فرض كفاية، يطرب لها الجميع، دون أن يكون لهم في كل ما يجري قوة أو حول.
هل لنا بعد كل ذلك أن نحلم، بغد أفصل لنا وللبشرية جمعاء، وعامنا هذا يشارف على الرحيل، ليبزغ عام جديد؟ وهل يكون عزاؤنا أن الزمن حركة مستمرة، وأنه لا يمكن الإمساك بتلابيبه وأن التاريخ لا يعيد نفسه؟. لا بأس إذن… وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
فقبل أكثر من نصف قرن حلم، كما نحلم نحن الآن الناس بعالم خال من الحروب والأمراض والأوبئة. وفي عام 1955م، وجه العالمان الإنجليزي، برتراند راسل والأمريكي، ألبرت اينشتاين نداء استثنائيا لقادة العالم وشعوبه، طالبوا فيه جميع البشر بوضع مشاعرهم القوية التي يمتلكونها حيال الكثير من القضايا جانبا، وأن يعتبروا أنفسهم فقط جماعات من نوع بيولوجي له تاريخ رائع، لا يرغب أحد في اختفائه. وكان الخيار الذي واجهه العالم آنئذ، والذي عكسه سباق التسلح النووي بين العملاقين الأمريكي والسوفيتي هو إما القبول بما هو كائن والاستسلام للأوضاع السائدة ووضع المصير الإنساني كله في مهب الدمار والفناء، أو نبذ الحرب والتبشير بالسلام.
كان العالم أثناء صدور هذا النداء، يواجه بحدة الأزمة الكورية وتبعاتها، بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وانشطار ألمانيا، إلى قسمين، شرقي اشتراكي، وغربي رأسمالي، يفصل بينهما جدار برلين. وكانت الأوضاع متفجرة في الهند الصينية، وكان هناك أيضا انشطار في فيتنام قسمها إلى شمال وجنوب. كما كانت هناك قضايا سياسية ونزاعات كثيرة معلقة، لم تحسمها اتفاقيات قسمة يالطه بين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، وجميعها تنذر بخطر مواجهة عسكرية بين الكتلتين المتصارعتين: الرأسمالية والشيوعية.
وخلال الفترة التي أعقبت ذلك النداء، شهدت البشرية حروبا ومجاعات وكوارث، في عدد كبير من كوكبنا الأرضي، شملت بالتقريب كل زواياه، وفاقت ضحاياها، ضحايا الحربين العالميتين مجتمعتين.
ومع أن الصورة الكالحة التي أطبقت على العالم… صورة احتمالات المواجهة النووية التي سادت في الخمسينيات قد تراجعت إلى حد كبير، بسبب انتهاء الحرب الباردة فإن الأخطار التي يواجهها العالم اليوم لم تعد متمثلة في احتمالات المواجهة النووية فحسب. فثمة عبث حقيقي بالكون والطبيعة، ربما يؤدي إلى كوارث أكبر بكثير من كل ما هو متوقع، لا يشكل استخدام السلاح النووي سوى جزء ضئيل منها.
فصناع الأسلحة، مارسوا مكرا وخداعا من نوع خاص، في تجاوز لاحتمال الفناء النهائي للنوع البشري الذي يمكن أن يتسبب به سلاح الردع النووي، وأوجدوا بدائل كثيرة عنه أعطيت مسميات جديدة تخفف من وطأة الاستنكار والتحفز ضد مصنعيه ومستخدميه. فلدينا الآن القنابل الذكية، والقنابل القذرة والقنابل التكتيكية، واليورانيوم المنضب، وقنابل النابالم، ومختلف الأسلحة البيولوجية والكيماوية، ومختلف أنواع الصواريخ القادرة على حمل مختلف أشكال التخريب والدمار. وقد استخدمت هذه الأنواع من الأسلحة الفتاكة على نطاق واسع في الحروب الحديثة من فيتنام ولاوس وكمبوديا ولبنان إلى العراق وفلسطين وأفغانستان. وهي أسلحة ينبغي أن يعمل الجميع على تحريم إنتاجها واستخدامها، وأن يجري الكفاح الدؤوب لجعل عالمنا خاليا منها.
والطريق الأمثل لاستعادة حلم البشرية، هو إعادة الاعتبار للقانون الدولي، ولميثاق الأمم المتحدة، ونبذ الحروب، وتغليب لغة الحوار، والانتصار لحق الشعوب في تقرير المصير، وتأكيد عدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول. وبالنسبة لنا نحن العرب، فلا مناص، في هذا المنعطف التاريخي، من الاعتماد على الذات. التمسك بجامعة الدول العربية، كخيمة جامعة لكل العرب، وتفعيل الاتفاقيات والمعاهدات، ومن ضمنها اتفاقيات التكامل الاقتصادي ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، وميثاق الأمن القومي الجماعي. واعتماد الحوار في القضايا المختلف عليها، بدلا عن القطيعة والمجابهة، والتنسيق في مجالات الثقافة والتعليم والصحة والتنمية، وصولا إلى صيغة أعلى من التكامل والوحدة.
نأمل أن تكون هذه الآمال حاضرة في أذهان الجميع، قيادات وشعوباً ونحن نستعد لاستقبال العام الجديد. فليس لنا إلا أن نأمل، وأن نواصل الحلم، فالحلم كما قال أحد المفكرين هو "إرادة كامنة".