ذهاباً إلى الاتحاد الخليجي
غسان الشهابي
ستكون الدعوة لإيجاد اتحاد خليجي بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، واحدة من أهم المفاصل التي مرت على هذا المجلس الذي يخوض بنجاح استمراره الزمني وسط مجالس واتحادات عربية أخرى، بهتت وذهب بهاء وجهها، بل وانحلّت من دون أن تكتب وصيتها أو أن تصدر شهادة بوفاتها. فهذه الدعوة التي تأخرت ثلاثين عاماً ليست بالأمر المستغرب إذ تنص أولى أهداف المجلس الواردة في وثيقة النظام الأساسي الموقع عليها في 25 مايو 1981 على “تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولا إلى وحدتها” [1]، وهذا يعني أن أمر الوحدة كان مستقراً في وجدان واضعي هذا النص، أو لنسمّهم “الآباء المؤسسين” الذين لم يبق منهم اليوم على قيد الحياة سوى السلطان قابوس بن سعيد.
وإذا كان التحدي الماثل أمام دول المجلس إبّان تأسيسه قد تمثل في التحديات الكبرى التي هزت المنطقة، بنجاح الثورة الإيرانية من جانب، والغزو السوفييتي لأفغانستان في ديسمبر 1979، وقيام حرب الخليج الأولى في سبتمبر 1980، فلم يكن من بد أمام هذه الدويلات إلا أن تأتلف ولو شكلياً في إطار لتشكل طوقاً وسوراً يحميها من مغبة هذا الطوفان الآتي من كل اتجاه.
شيئاً فشيئاً بان حجم التحديات، ودخلت الدول الكبرى لتقول المرور إلى منابع النفط لن يكون إلا على جثتها، وبالتالي، تبيّنت ملامح الخطر الذي يمكن أن يهدد المنطقة، فهدأت المخاوف قليلاً، ما عدا الهاجس الأمني الذي لا يهدأ حتى في أكثر الأيام رخاء، وانتقلت دول التعاون إلى الأهداف الأخرى المتخطية للهدف الأول، ومنها الجوانب التجارية والتعليمية والرياضية والشبابية وغيرها، إذ لم تكن لديها الحاجة ماسّة بهذا الشكل لتفعيل الخطط الزمنية اللازمة للوحدة ما دامت التحديات ليست بالشراسة الداعية إلى هذا النوع من الترابط. حتى مع الغزو العراقي للكويت، وهو أكبر تحد واستثارة للوحدة الخليجية، حتى هذا التحدي لم يجعل دول المنطقة تسارع للوحدة فيما بينها، إذ كانت الولايات المتحدة أسرع في إيجاد الحل، واستمطار القرارات من مجلس الأمن الواحد تلو الآخر للمسارعة بإنهاء الاحتلال، فاسترخت الأنظمة أيضاً واطمأنت إلى أنها – على الرغم من كل شيء – فإنها لن تعاني المصاعب الوجودية، وهذا يعني أن الحاجة للوحدة أيضاً ليس ماساً بالشكل الذي يجعل هذه الدول تلصق أكتافها معاً.
ولكن ما أن تململت بعض الدول العربية في أكثر من مكان، حتى بان أن الأمر صار بحاجة إلى تعاطٍ آخر، إذ لا يمكن للخارج هنا أن يقف حائلاً دون التحركات الجماهيرية، بل وإن الخارج نفسه متهماً بالتعاون والتشجيع والتسهيل اللوجستي لهذه الحركات أن تتم، وما حركة الناتو في الأجواء الليبية إلا واحدة من هذه المناصرة، وهذا يعني أن الدول الخليجية إن لم تتكاتف وتتكاثف جهودها من أجل هذا الغرض، فإنها لن تكون بمنأى ومنجى من القلق على مستقبلها وتعاطيها مع المتغيرات على المستويات العالمية… أي عدنا للجانب الأمني من المسألة.
إن مجلس التعاون بشكله الحالي، وبما تمثله بعض دوله من ثقل سياسي على المستوى العربي كالمملكة العربية السعودية، وما ترغب به بعضها من اقتناص أدوار لتؤديها لتثبت أنها ليست أقل عملقة من السعودية، مثل قطر، ومن الدور الاقتصادي على جوانب عدة والمتمثلة في الأموال المتوفرة والمختزنة لدى هذه الدول، كلها تشير إلى التأثيرات الكبيرة والجادة لدول هذا الإقليم على السياسات العربية؛ باتت قادرة على إمالة الكفة التي ترغبها في الميزان، وربما بشكل أفقد دول المركز العربي (مصر ودول الشام) وزنها التقليدي في القضايا العربية، وهذا ما أشار إليه أحد الصحافيين العرب بقوله “تعلمنا في المدارس أن الخليج العربي جزء من الأمة العربية… لكننا اليوم نرى أن الأمة العربية جزءٌ من الخليج العربي”، بمعنى أنه بات أكبر منها من حيث القوة والتأثير. هذا مع عدم وجود سياسة خارجية موحدة بين دول المجلس، فما بالنا لو توحدت؟!
الوحدة الخليجية، الحلم القديم، إن أريد له النجاح فلا بد أن يتدرّج لئلا يتدحرج، كما تدحرجت أحلام من قبله. فالعمل على الوحدة ليس فقط قرار سياسي وعلى الجميع تنفيذه، فهو أمر لا بد من استمزاج الكثير من الآراء فيه، وهنا لا بد أن تكون النظم الخليجية متسقة إلى حدود معقولة في وجود الآليات والمؤسسات التي يمكن من خلالها استفتاء شعوبها في الأمور الأساسية التي تهمها، كما يحدث في الاتحاد الأوروبي حالياً، فيمكن للدولة البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي وإن لم تكن مشتركة في بعض المعاهدات والاتفاقات الجماعية، وذلك بحسب أولوياتها الخاصة.
الأمر الآخر، هو التساؤل ما إذا كانت الوحدة الخليجية تعتبر اندماجاً بين الدول، أو مزيدا من التعاون ككيان يكون فيه التنسيق عالي الشأن؟ أي بصيغة أخرى: هل سيكون المجلس فيدرالياً، بمعنى “اتحاد اختياري بين ولايات أو دول أو أقوام تختلف قوميا أو عرقيا أو ديانة أو لغة أو ثقافة حتى تتحول إلى شخصية قانونية واحدة أو نظام سياسي واحد مع احتفاظ أجزاء هذه الشخصية المتحدة بخصوصيتها وهويتها ويوجد تفويض للكيان المركزي للاتحاد بالبعض من الصلاحيات المشتركة مع الاحتفاظ ببعض الصلاحيات لهذه الأجزاء أو الولايات. بما يعني توافر الاستقلال الذاتي للولايات المكونة للاتحاد ولهذا أهم ما تتميز به الدول الفيدرالية أو الاتحادات الفيدرالية هو الاستقلال الذاتي لكل ولاية أو دولة مشتركة في الاتحاد.
وللاتحاد الفيدرالي دستور أو قانون أساسي يسمى بالدستور الاتحادي يبين الأسس والركائز التي تقوم عليها الولايات أو الدول داخل الاتحاد كما يحدد الاختصاصات والسلطات الاتحادية أو المركزية علاوة على بيان سلطات الولايات واختصاصاتها” [2]. وهنا تتوقف الكثير من التساؤلات عما إذا كانت كل دولة ستحتفظ بخصوصيتها وما بلغته من تطورات في بعض الميادين دوناً عن الأخرى، فكثير من الآراء تجمع على أهمية الإبقاء على الخصوصية. والأقليات العرقية والمذهبية والدينية، تبقى هي الأكثر توجساً فيما لو استحالت البحور الست إلى بحر كبير، ربما ترى أنها ستغرق فيه، فلا بد قبل أي شيء ضمان وجودها وكيانها حتى لا تبدأ في الانكفاء على نفسها وتكوين مجتمعات داخل المجتمعات وتصبح منفذاً سهل الاستقطاب مستقبلاً.
بين أن تتلكأ الوحدة الخليجية ثلاثة عقود، أو أن تأتي بقرار، هناك الكثير مما يمكن أن يقال ويُفعل، حتى نذهب (أو ربما لا نذهب) إلى هذا الخيار عن قناعة تامة، نتحمل فيها جميعاً مسؤولية تاريخية عظمى، ليس من العدل والإنصاف غيابنا أو تغييبنا عنها.
البلاد:الخميس 22 ديسمبر 2011