درس العراق المقاوم: فقط بالتضحيات والارادة الحديدية نصنع النصر
صلاح المختار
أراد إخوة سيدنا يوسف أن يقتلوه فلم يمت، ثم أرادوا أن يمحى أثره فارتفع شأنه، ثم بيع ليكون مملوكا فأصبح ملكا، ثم أرادوا أن يمحو محبته من قلب أبيه فازدادت. درس تاريخي عظيم يذكرنا باجتثاث البعث وسط (التيه العربي) المتعمد الذي بدأ في مطلع هذا العام باطلاق امريكا لموجة التغييرات الحالية، مستغلة ظلم الديكتاتوريات وفسادها، هناك من يريد ترويج فكرة مضللة وخطيرة وتقع في صلب أهداف الاحتلال الأمريكي للعراق وهي أن المقاومة العراقية انتهت أو أنها أصبحت ضعيفة ولا تستطيع الحسم أو أنها تحولت إلى صراع طائفي، لذا لابد من البحث عن بديل عنها…الخ من الترويجات المشبوهة التي يساهم في ترويجها نفر يدعي الانتماء للصف الوطني أو التيار القومي العربي. ولذلك لابد من تناول الموضوع بطرح السؤال التالي: هل حقا تراجع دور المقاومة العراقية أو انتهى أو تغيرت طبيعته؟ ولكي نجيب على هذا السؤال لابد من طرح سؤال آخر: وهل انتهت معركة العراق بالانسحاب المفترض للقوات الأمريكية؟
الذين يروجون لذلك لا ينتبهون، أو ربما يتجاهلون عدة حقائق ميدانية واستخبارية تؤكد أن الاحتلال مازال مستمرا منها:
1-إعداد سلطة فاشية دموية: من الحقائق الميدانية في العراق حقيقة أن الاحتلال قبل مغادرة قسم من قواته العراق، ومنذ سنوات يعد بديلا آخر لمواصلة الاحتلال، وهو إقامة سلطة فاشية عميلة تابعة له في بغداد تستطيع بعنفها المتطرف مواجهة المقاومة بوجود الدعم الأمريكي المباشر لها، وهذا ما تم بالفعل حيث انخرط في سلك الجيش الجديد والأمن الجديد ألاف الأشخاص من الميليشيات العميلة لإيران وبلغ عددهم حوالي المليون عسكري مع صلاحيات مفتوحة بالتعذيب والقتل العشوائيين والمتعمدين. وهذا الأمر تضمنته البنود السرية للاتفاقية الأمنية التي وقعها العميل المزدوج، لأمريكا وإيران، نوري المالكي في عام 2008 مع أمريكا، ولذلك فان هذه القوات المحلية بطبيعتها وبغالبيتها معادية للشعب ومقاومته وفاسدة او طائفية وبدأت بالعمل على مهاجمة المقاومة والقوى الوطنية بكافة الأشكال، فوفرت لامريكا فرصة الانسحاب من المدن وتجنب الاشتباك المباشر والمتكرر مع المقاومة. والفضل كل الفضل في تمكين أمريكا من سحب قواتها من المدن وحمايتها من الكثير من هجمات المقاومة المسلحة يعود لإيران وحكومة المالكي.
2-قوات النخبة: الاحتلال لديه (قوات النخبة) التي تركها في العراق تحت تسميات مختلفة، منها حماية السفارة الأمريكية وتدريب الجيش الجديد… الخ، وتضم هذه القوات الخاصة قوات نظامية كالتي تستخدم غطاء حماية السفارة الأمريكية وتبلغ أكثر من 15 ألف جندي وهو رقم غير معقول إذا كان المطلوب فعلا هو حماية السفارة مهما كانت كبيرة، أو من شركات الحماية الأمنية الخاصة، هذه القوات الخاصة لا تقل عن 80 ألف جندي أمريكي رسمي وغير رسمي.. الخ، موجودة في العراق وتقوم بإسناد الحكومة العميلة وتشن حملات اعتقالات وقتل وقصف بقرار منها وبدون الرجوع لحكومة المالكي.
3-المخابرات أداة الفعل الرئيس: والاحتلال يقاتل الآن بأهم واخطر أسلحته وهو المخابرات، فهي التي تولت منذ عام 2006 معركة العراق وليست القوات المسلحة الأمريكية التي أصبحت تنفذ خطط المخابرات وتخضع لها بهذه الطريقة أو تلك، ووضعت المخابرات بعد تأكد الإدارة الأمريكية والبنتاغون من فشل الحل العسكري في العراق بعد معركتي الفلوجة الأولى والثانية عام 2005 خطة اختراق صفوف فصائل المقاومة العراقية، وتحققت نتائج مهمة عندما تم اختراق فصائل إسلاموية، وأدى ذلك لتمزيقها وزوال بعضها. ويكفي أن نحاول معرفة مصير بعض الفصائل التي كانت قوية حتى عام 2006 لكنها اختفت كليا من المشهد القتالي العراقي بعد عام 2007 مع أنها كانت فاعلة فيه. وإذا بحثنا بدقة عن السبب وجدنا أن الاختراق المخابراتي الأمريكي هو الذي فتتها وأنهاها، وكانت الخطة الأساسية هي استدراج هذه الفصائل عن طريق قطر التي دعتها للحوار وتقديم الدعم لها فذهبت إلى الدوحة وهناك تدفقت عليها ملايين الدولارات التي أفسدت الكثير من مقاتليها أولا ثم تم كشف العناصر الرئيسة فيها مما مهد لاحتواء الكثير من الكوادر واستخدامها في تأسيس الصحوات أو تفتيت تلك الفصائل وإنهاءها عمليا.
كانت الخطة الأمريكية تقوم على إفساد النفوس بالمال وتحويل المجاهد لمرتزق يعتمد على المال في جهاده، وليس على التبرعات الشحيحة كما كان الحال في بداية عمل تلك الفصائل، وبعد أن بدأت قطر وغيرها من دول الخليج العربي بدعم فصائل معينة بملايين الدولارات شهريا بدأ التراخي والفساد ينتشر وأصبح للمجاهد بيتا ثابتا وزوجة أو زوجات وراتب كبير ومال سائل تحت تصرفه، وهكذا اغتال المال تلك الفصائل قبل التصفية الجسدية للكثير من الكوادر.
4-القوة الضاربة في التخوم: وعندما انسحبت بعض القوات الأمريكية من العراق تمركزت في الجوار العراقي بغالبيتها. فثمة قوات أمريكية ضخمة منتشرة رسميا في الكويت وتركيا وأماكن أخرى أعدت للتدخل الفوري في العراق إذا وقعت أحداث تهدد الترتيبات الأمريكية، ولا تحتاج لأكثر من يوم إلى يومين للوصول لبغداد. وهذه القوات إمكانياتها هائلة في كافة الجوانب.
باختصار: كانت الخطة المخابراتية الأمريكية تقوم على ترشيق الاحتلال وتغيير شكله وليس إنهاءه باعتماد قوات نخبة قليلة العدد لتأكيد إعلان الانسحاب، واستخدام هذه القوات بطريقة مركزية مكثفة لضرب كل تهديد للأوضاع التي أسسها الاحتلال، خصوصا ضرب المقاومة إذا حاولت حسم الصراع بتحرير بغداد، وقدرت المخابرات الأمريكية ان هذه القوة تستطيع الصمود لمدة كافية لوصول قوات اكبر من الكويت أو تركيا برا أو من قطر جوا وبعمليات قصف فورية. إن العمل المخابراتي أصبح هو القاعدة إذ أقيمت شبكة علاقات وتنظيمات داخل العراق تدعم الاحتلال، ومنها قوات الجيش الجديد والأمن الجديد وغيرها والتي تصل لحوالي مليون تقريبا، وهذه القوات ورغم الطابع الميليشاوي الطائفي لها إلا أنها في الواقع تضم بين صفوفها نخب فعالة تقع تحت نفوذ وسيطرة المخابرات الأمريكية تستطيع استخدامها عند الضرورة، إضافة لوجود (قوات احتياط) غير معلنة من الشراذم المتساقطة من جيشنا الوطني التي استقطبتها المخابرات الأمريكية واعدتها تحت واجهة ضرب النفوذ الإيراني وهي جاهزة للتحرك في حالات معينة وموجودة داخل العراق وبعضها قريبا جدا منه ودربت واعدت مسبقا.
ويترتب على هذه الحقيقة أمر مهم جدا هو أن من يظن أن الاحتلال قد ذهب، واهم أو متعاون مع الاحتلال ويريد بإنكار وجود الاحتلال تبرير تعاونه المفتوح مع حكومة المالكي ودعمها وإقامة صلات استراتيجية معها لخنق المقاومة وتكريس الاحتلال المزدوج الأمريكي – الإيراني. ان حكومة المالكي كانت ومازالت أداة الاحتلال الإساسية، لم تتغير ولن تتغير لان التابعين يبقون دمى طيعة بيد سادتهم وينفذون أوامرهم، ولهذا السبب كان من الطبيعي أن تعد حكومة المالكي أسوأ حكومات الاحتلال وأكثرها فاشية وعداء للشعب ومقاومته الباسلة، وابرز مظاهر تلك الحقيقة مكافئة أمريكا لها بدعم المالكي كرئيس وزراء مرة ثانية لإكمال دوره في نشر الفتن الطائفية وتعميق الجروح بين العراقيين وتدمير ما تبقى من العراق والغاء هويته العربية… الخ، وكان ثمن ذلك هو التخلي عن (رجلها) إياد علاوي رغم فوزه في انتخابات في ظل الاحتلال. إن من يراهن على حكومة المالكي ويمنحها صفة الوطنية أو القومية يرمي بنفسه في شباك الاحتلال أو يؤكد انه جزء من أتباعه بالأصل، وهذا الموقف يدفع بشعب العراق للوقوف ضد كل من يدعم المالكي او يتحالف معه عراقيا كان أو عربيا، حاكما أو محكوما. وعلى من يريد الآن تبييض وجه المالكي لأسباب معروفة أن يتذكر بان الثور لا يحلب، ومحاولة هذا البعض حلب المالكي ما هي إلا استمناء وسخ لمراهق وقح وشاذ يصر على وقاحته وشذوذه.
مقابل هذا التطور في خطة الاحتلال حصل تطور مضاد في خطط المقاومة العراقية، فبعد احتواء وتمزيق وزوال بعض الفصائل الإسلاموية أكمل التيار القومي العربي، المتحالف مع تيارات إسلامية حقيقية وقوى وطنية فاعلة، تثبيت وجوده والتغلب على آثار توجيه ضربات شديدة القوة له في السنوات الأولى للاحتلال، والتي جعلته يواجه تحديين خطيرين في وقت واحد، الأول تحدي الهجمات المتكررة والمنظمة عليه من قبل الاحتلال ومخابراته والميليشيات الطائفية التابعة لإيران والتي أدت لاستشهاد أكثر من 150 ألف مناضل قومي عربي أو إسلامي منزه عن أهداف السعي للسلطة، وهي هجمات كان يجب مواجهتها بحماية الحزب وكوادره وحلفاءه والفصائل القومية والوطنية الإسلامية المتحالفة معه، وتلك كانت مهمة شاقة متعبة، وبنفس الوقت كان على التيار القومي والوطني والإسلامي أن يواجه التحدي الثاني والاهم وهو الاحتلال بعمليات نوعية مستمرة ومتتابعة لإيقافه وإضعافه تمهيدا لطرده.
بعد عام 2006 تبلورت صورة الوضع القتالي على الأرض فالفصائل القومية والوطنية والإسلامية المتحدة في إطار القيادة العليا للجهاد والتحرير تمكنت من تجاوز العقبات الخطيرة وطورت عملها القتالي بطريقة أذهلت العدو والصديق، في تراجعت وتقلصت فيه فصائل إسلاموية، بسبب الانشقاقات وعمليات الاحتواء المنظم نتيجة قلة خبرتها واختراق المخابرات الأمريكية لبعضها خصوصا عبر قطر وأنظمة خليجية، لذلك فان الثقل الرئيس الآن في المقاومة العراقية تمثله جبهة الجهاد والتحرير والخلاص الوطني التي تشكل القوة الضاربة المنسجمة، التي تملك مقومات طرد الاحتلال والنجاح في الإمساك بالأرض عندما تحين لحظة الحسم. والاهم أنها تملك قدرة إعادة ترتيب أوضاع العراق ليعود وطنا آمنا ومستقرا لكل العراقيين وقاعدة للثورة العربية ومحركا للجماهير العربية في انتفاضاتها ضد الطغاة والامبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني.
إذن شكل المعركة مع أمريكا تغير ولم تنتهي المعركة معها وهي مستمرة ولن تنتهي الا بتحرير العراق تحريرا كاملا غير منقوص، وذلك يتضمن إعادة بناء العراق وإقامة حكم وطني ديمقراطي ائتلافي يمثل كافة من شاركوا في تحرير العراق وليس حكم حزب واحد أو فئة واحدة.
يبقى سؤال مهم جدا: ماهي النتائج العملية والستراتيجية لهزيمة أمريكا في العراق؟ عراقيا: أكد العراق وشعبه العظيم انه قادر على إلحاق الهزيمة بأي احتلال مهما كان قاسيا ووحشيا فالذي هزم أمريكا قادر على إلحاق الهزيمة بأي استعمار آخر خصوصا الاستعمار الاإراني. وعربيا: دحر أمريكا أيقظ مشاعر القدرة والعزة والكرامة في الشعب العربي في كافة أقطاره التي ضعفت او نومت، ومهد للانتفاضة العربية في تونس ومصر، ولذلك فان المقاومة العراقية هي الأب الروحي للانتفاضة الشعبية العربية ضد الديكتاتورية والفساد. وإقليميا: أكدت المقاومة العراقية أن إيران وتركيا لا تعملان إلا لمصالحهما القومية وان ذلك الدافع كاف لجعلهما يتعاونان مع أعداء الأمة العربية ضد العرب، كما فعلت إيران بمشاركتها في غزو العراق ودعمها لأمريكا فيه، أو كما فعلت تركيا في عهد اردوجان بإطلاق موجة النزعات الطورانية التوسعية على حساب العرب، ودوليا: كشفت وأكدت المقاومة العراقية للعالم حقيقة قالها ما وتسي تونغ الزعيم الصيني التاريخي وهي (أن الامبريالية نمر من ورق) رغم أن هذا النمر يمتلك أنيابا ذرية، ففي ساحة العراق أجبرت المقاومة العراقية أمريكا على كشف حقيقتها وهي أنها نمر من ورق يمكن دحره إذا توفرت إرادة التضحية والقتال.
هل هذا يعني أن المقاومة العراقية كسرت العمود الفقري للخطة الأمريكية الهادفة لإقامة إمبراطورية أمريكية تسيطر على العالم؟ نعم لقد كسرت هزيمة أمريكا في العراق على يد المقاومة العراقية العمود الفقري لستراتيجية، لتأسيس إمبراطورية كونية تستمر كل القرن الحالي كما تمنى جورج بوش الأب عندما كان رئيسا لأمريكا، لكن الهزيمة في العراق كشفت المستور الأمريكي ورأى العالم عيوب أمريكا البنيوية وأدركت الشعوب إمكانية إلحاق الهزيمة بأمريكا لان قدراتها محدودة وليست مطلقة كما كانت تروج.
إضافة لذلك، اكتشف العالم أن اندفاع أمريكا الهستيري للسيطرة على العالم بالقوة والتدمير شبه الفوضوي، ستراتيجية الفوضى الخلاقة مثال له، ليس سوى تعبير عن الضعف، وهو ثمرة إدراك صناع القرار الأمريكي بان وقت الانهيار يقترب لذلك لا بد من توجيه ضربات استباقية تمكن أمريكا من السيطرة على موارد العالم وتسخيرها لمنع انهيارها وتوفر لها الاستمرارية، لكن المقاومة العراقية الباسلة التي بدأت عمليا عام 1991 على يد البعث ونظامه الوطني نحرت مشاريع أمريكا على أسوار بغداد كما تنبأ القائد الشهيد صدام حسين.
في المعايير الستراتيجية يؤدي فشل العدو في تحقيق هدفه الجوهري للحرب إلى انتصار الطرف الآخر في الصراعـ على أساس أن الأخير يريد أولا وأخيرا منع الطرف الأول من تحقيق هدفه الجوهري ونجح في ذلك، طبعا لن يكون النصر كاملا ونهائيا بصورة تلقائية بل لابد من عمل منظم ومتواصل وشاق لتحويل هزيمة العدو إلى نصر كامل للطرف الآخر في الصراع، وهذا ما حصل في العراق فهزيمة أمريكا تعد بحق نصرا للمقاومة العراقية التي أعلنت مرارا وتكرارا أن هدفها الجوهري هو منع أمريكا من تحقيق النصر المتمثل في السيطرة الآمنة والمستقرة على العراق، ولكن عليها مواصلة المقاومة خصوصا المسلحة منها لأنها القابلة الوحيدة التي تولد فجر التحرير والحرية، وعندها سيكون النصر كاملا وغير منقوص.
إن المعركة مستمرة في العراق وهي المعركة الرئيسة في العالم، وهزيمة أمريكا في العراق حينما تكمل باستيلاء المقاومة والقوى الوطنية العراقية على السلطة وطرد الاحتلال المموه وحكومته العميلة سوف تؤدي إلى نهوض قومي عربي شامل لم يسبق له مثيل فتتساقط أحجار الدومينو الاستعماري ابتداء من بإسرائيل حتى قواعد أمريكا بالوطن العربي والعالم، ولن تتوقف عملية امتداد الثورة العراقية المسلحة المنتصرة عند حدود الوطن العربي بل ستمتد لتشمل العالم كله، مقدمة لكل الشعوب الحرة الدليل على أن المقاومة الشعبية المسلحة قادرة على تحقيق هدف التحرر وليس الثورات الخضراء ولا ردات الربيع الأمريكي.
الآن: الاحتلال يتراجع والمقاومة تتقدم، أمريكا تتفكك والمقاومة تتعاظم، عملاء الاحتلال يتشرذمون ويتناحرون ويهربون من العراق والمقاومة والقوى الوطنية تزداد قوة داخل العراق وتعزز مركزها وتتهيأ لصراعات الحسم. لذلك على شعبنا وقواه الوطنية تشديد المقاومة المسلحة وداعمها المقاومة السلمية من اجل التسريع بطرد الاحتلال والتخلص من حكومة المالكي العميلة للاحتلال. النصر او النصر ولا شيء غير النصر. عاشت المقاومة المسلحة أمل الأمة وخيارها الستراتيجي.