يعقوب سيادي
في مقالتنا السابقة، أشرنا إلى وصول مأساة الوطن إلى مراحلها المتقدمة، وبات الخيار هو خيار الشعب بكل مكونات غالبيته الساحقة، من معارضة وطنية نشطة ومعارضة وطنية خاملة، فقد بلغ السيل الزبى، من بعد الدعوة إلى تشكيل مليشيات شعبية، تمنحها الجهات المعنية سلطة القبض والحبس ومن ثم التسليم لشرطة الأمن، لكل من يعارض النظام، ويطالب بالحقوق، من بعد القتل في الشوارع والسجون تحت التعذيب، والزج بالمواطنين في غياهب السجون، سواءً باستصدار أحكام الحبس طويلة الأجل، أو بالحبس الاحتياطي المتجاوز مدده القانونية في أقصاها عبر أحكام المحاكم، والفصل الجماعي من الأعمال، وتجريد الوطن من خيرة مؤهليه في الطبابة والتمريض والتعليم والصحافة والرياضة، وكل مضامير العمل، واستبدالهم بموالين موتورين متمصلحين، لا كفاءة لهم تضاهي من استبعد.
ففي تقديري، أن دولة المليشيات، لا يهنأ فيها مواطن، ولن تكون هناك دولة، بل دويلات مثل ما هو جارٍ في لبنان الشقيقة، من عدم توافق ودوام تهديد البعض للآخر، وكلاً ينال ما تطاله يداه، حتى لو افتقرها الآخر، وحين اشتداد الخلاف، يكون السلاح هو الحكم. وكذلك ما في العراق الشقيق، من قتل على الهوية الطائفية، بتفجيرات يومية تطال جميع الطوائف، وأيضاً ما تشير إليه الحال في ليبيا، أجارنا وأجارهم الله ما هم فيه من شرور الاقتتال، خصوصاً أن البحرين بمساحتها وتعداد سكانها، لا تتعدى مدينة من تلك الدول، وتقطنها طائفتان تشكلان جل تعدادها، الشيعة والسنة، وهناك طائفة جديدة من المواطنين الجدد التي تتناكف مصالحها مع مصالح الاثنتين، ما يجعل دولة المليشيات جحيماً للاقتتال الطائفي والإثني، ويسود فيها قانون الغاب، فماذا يتبقى أمامنا من خيارات، خصوصاً أن الوضع السياسي الذي استمر ما يتعدى الأربعين عاماً منذ الاستقلال، أثبت فشله في إدارة الدولة الوطن.
حسب أطراف المعارضة الوطنية، وحسب أطراف الموالاة، من جهة، ومن جهة أخرى حسب التوجهات الشعبية العامة، هناك خياران، إما الدولة الدينية، (سواء للطائفة الشيعية أو الطائفة السنية، أو تقاسماً بينهما، كونهما طائفياً لهما الغلبة)، وإما الدولة المدنية العابرة للطوائف إلى المواطنة، المتساوية الحقوق والواجبات، في اقتسام الثروة الوطنية، وفي سيادة الشعب مصدر السلطات، عبر النظام الديمقراطي، في دولة المؤسسات والقانون. وليس لدى السلطات من خيار إلا التسليم لإرادة الشعب، خصوصاً أن الحوار الجاري في شقه السياسي، ما هو إلا ذر للرماد في عيون المجتمع الدولي، وليس إلا تلهية لكسب الوقت الضائع حتماً، والذي تأمل منه السلطات، إرجاع الوضع إلى ما كان عليه، من استحواذ على السلطة والثروة، وهذا مُستبعدٌ نيله، ولن يكون هناك إستقرار له، كون الآلام الشعبية قد تجذرت في أجيال متعاقبة.
إن أية دولة دينية، بمعايير الدين ومفتيه المعاصرين، في كلتا الطائفتين، يجعل منها طائفة مفترية على الطائفة الأخرى، وخصوصاً من بعد انتشار فتاوى التكفير والجهاد والمناكحة الجهادية، وتبادل عدم الثقة وعدم الاطمئنان فيما بينهم. إضافةً إلى تناقضاتها واحترابها مع معطيات العصر، خصوصاً أن في المجتمع جموعاً شعبية لا يُستهان بها، من متبنّي الحداثة في جانب، ومن الدينيين المستنيرين في جانب آخر، من المؤمنين بأن الدين لله والوطن لجميع مواطنيه.
فلا يتبقى إلا الدولة المدنية، التي تحترم جميع الأديان، وجميع المعتقدات داخل كل دين، وتمنع التطاول على الأديان والمعتقدات، وتعاقب متعديها بالقانون، وتحفظ الحريات الشخصية وتصونها، وتساوي بين المواطنين وتحفظ الهوية الوطنية، وتكفل المحافظة على الثروة الوطنية وتنميتها، لحفظ حقوق الأجيال، ويتولى فيها المواطن دون الغير وحسب الكفاءة ومن غير تفرقة، الوظائف الرسمية، في الوزارات والهيئات، والأمن والجيش، كل ذلك من بعد مرحلة انتقالية، تتولّى فيها حكومة إنقاذ وطني، متوافق عليها وبإشراف الأمم المتحدة، إعداد مسودة دستور عقدي، يتولى مجلس دستوري منتخب، تنقيحه واعتماده ليسجل كوثيقة لدى الأمم المتحدة، التي سيظل لها الإشراف الإداري على تنفيذ مواده، إلى أن تستقر الأوضاع، وذلك من بعد محاسبة كل من تعدى حدود وظيفته، وخالف معاهدات حقوق الإنسان، وتعويض كل من عانى وأعتقل وعُذِّب، وكذلك الشهداء وأهاليهم جراء الأحداث.
ولا يجهد أحد في محاولة التخوين بتهمة الارتهان للخارج، فالبحرين دولةٌ مستقلةٌ في منظومة الأمم المتحدة، قبل أية منظومة أخرى، وتخضع للقوانين الأممية، التي يتوجب أن تتواكب قوانينها وممارساتها المحلية وتلك الأممية، وليس في ذلك خيانة، إذا ما وصلت حال مأساة البحرين إلى انعدام الثقة الشعبية في السلطات، وساد فيها ضمور الثقة فيما بين مكونات المجتمع، فالخيانة هي الارتهان إلى دولة من الدول أو بعضها، وخصوصاً بالدعم العسكري والأمني الداخلي، لفرض أجندة خاصة لطرف رسمي أو شعبي دون غيره، وليس طلب العون من الأمم المتحدة بما يعم كافة مكونات المجتمع، ومواكبة النظام وممارساته مع القوانين الإنسانية الأممية.